لا يقبل أرسطاطاليس أن يكون هذا المحرك الأبدي الأول متكثرا، بل إنه واحد وعلة لما عداه من المتحركات الأخرى. يختلف هذا المحرك عن الموجودات التي تتكون من الاحجام والاجزاء والاعظام، أنه، وهو يتصف بالوحدة، ويعتبر مبدأ جميع الأشياء علة الوجود والعدم والتغير في الكائنات، ولكن من غير أن ينعت باي من هذه في وجه من الوجوه. وحينما يرى أرسطاطاليس أن الأشياء المتغيرة لا يمكن أن تكون علة حقيقية للحركة، فإنه يفرق، وفي أصالة، بين حركات الاجرام العليا، التي تتحرك بواسطة محرك أزلي لا يتحرك، وإن تغيرها يكون أزليا كذلك، وحركات الأشياء الطبيعية السفلى التي تتحرك عن طريق شئ متغير متبدل، وإنها تكون بذاتها متغيرة كذلك. ولكن هذا المحرك القديم، الذي يطلق عليه الكندي لفظة الله، والذي يقبل أن يكون عنده علة الأشياء جميعها بتوسط وبغير توسط، هو عند أرسطاطاليس أبدي بسيط، إنه، وباستمرار، في حالة واحدة لا تتبدل، أنه يحرك حركة واحدة وبسيطة.
إن الله الأبدي، والذي هو العلة الأولى، لا يقبل أن يوصف عند الكندي بالعدم، أنه لا موضوع له، ولا محمول، ولا فاعل ولا سبب.
يبرهن الكندي هنا، وكما يفعل الغزالي وابن سينا، على أن الله الأزلي لا تحده التعريفات المنطقية، يعني أنه لا جنس له، لأنه إن كان له جنس فهو نوع، والنوع مركب من جنسه العام له ولغيره ومن فصل ليس في غيره، فله موضوع هو الجنس القابل لصورته وصورة غيره، ومحمول هو الصورة الخاصة له دون غيره، فله موضوع ومحمول.
ولكن قد ظهر أن الله الأبدي ليس له عند الكندي موضوع ولا محمول ولا جنس... أن الله عند الكندي، وهو الذي أوجد العالم المحدث، تام وكامل وموجود، لا يقبل التبدل والفساد والانتقال من النقص إلى التمام، لأن الانتقال استحالة ما، أنه لا يمكن أن يكون ناقصا فيصير إلى حال يكون بها فاضلا وكاملا، إنه لا يمكن أن يستحيل إلى أفضل منه ولا إلى انقص منه بتة، إن الله الأبدي، وكما يبرهن أرسطاطاليس في طبيعة المحرك الأول الذي لا يقبل الامتداد، لا جنس له عند الكندي، لا يمكن أن يكون جرما ذا كمية أو كيفية، لأنه سيتصف بحدود الزمان والمكان والتناهي، والله الذي خلق العالم وأمسكه وأبدعه، هو الفاعل، الحق الأول، الأزلي، إنه يعلو على كل ما يتصوره عقل الإنسان...
يحاول ان يربط الكندي في كثير من رسائله، وفي أصالة ظاهرة بين الحركة والجرم والزمان، ويدعم بهذا الربط نظريته في تناهي وحدوث العالم.
إذا قال الكندي في بادئ الأمر أن الزمان مدة تعدها الحركة، وإنه إذا لم تكن حركة لم يكن زمان، فإنه يوحد بينها حينما يقول: إن كان زمان فحركة، وإن كانت حركة فجرم. أن الحركة ملازمة للجرم بوجه عام، وإن الجرم في زمان حي كم متصل. أن الحركة والجرم والزمان لا يسبق بعضها بعضا في الآنية، انها، وتختلف في هذا عن الذات الإلهية، ذات بداية ونهاية. والجرم، كالزمان موجود معناه، أنه يقبل الكون والفساد، وأنه، من حيث أنه شئ حادث، لا يمكن أن يكون لا نهاية له بالفعل.
ويرى الكندي، في نظريته عن الله والعالم، أن الحركة موجودة ما دام هنالك جرم، وقد قيل أن الحركة لا تكون، إذا كان الجرم موجودا، وهذا محال حسب رأيه، لأنه إذا كان هنالك جرم كانت حركة اضطرارا، إذا افترض وجود الجرم بدون الحركة، فاما ألا تكون حركة بته، وأما أن تقبل ألا تكون في وقت ما، وأن تكون في آخر، يعني الكندي أن تقبل هذه الحركة حالتي الوجود والعدم. ومن الطبيعي أنه إذا كانت الحركة ليست موجودة، وإن الجرم موجود، فسيحدث تناقض واضح حسب مذهب الكندي العام، لأننا عرفنا أن الحركة والجرم والزمان عنده لا يسبق بعضها بعضا في الآنية فهي معا.
ولنتفهم رأي الكندي في عدم قبول انتساب اللاتناهي إلى الجرم والعالم، لا بد لنا أن نناقش، وفي اقتضاب، آراء أرسطاطاليس في هذا السبيل تلك الآراء التي ستوضح لنا طبيعة ادراك التناهي واللاتناهي بوجه عام. يقول أرسطاطاليس في الكتاب الثالث من الطبيعيات: أن الفيثاغوريين وأفلاطون قد اعتبروا اللامتناهي جوهرا وشيئا قائما بذاته، وأن تصور العناصر الأربعة في الفلسفتين الأيونية والطبيعية قد أشار إلى وجود هذا اللامتناهي، وهو مبدأ لا يقبل الفناء، عن متصل ملموس.
لا ينكر أرسطاطاليس أننا سنكون أمام صعوبات جمة حينما نحاول امتحان نظرية اللامتناهي. يظهر أرسطو هنا أمام نظرتين قد لا تبدو ان متعارضتين إلى حد كبير، نظرة أوحت بها إليه دراساته الطبيعية التي تعتبر الجسم المكاني متناهيا، ونظرة ثانية أسعفته بها الدراسات المتقدمة عليه حينما اعتبر مادة العالم القديمة أزلية غير محدودة. أن الكندي لم يقف كثيرا أمام هذه الناحية كما سيفعل ابن رشد فيما بعد، أنه لم يفكر في المشاكل الذهنية البعيدة المدى، تلك المشاكل التي قد تعترض الباحث حينما يتصور فكرة اللامتناهي عند الأقدمين، وفكرة الحدوث أو التناهي عند المسلمين. وإذا لم تستوقف الكندي هذه النظرة العويصة بعض الوقت، فان أستاذه أرسطاطاليس قد أخذ يتساءل عن طبيعة هذا اللامتناهي: هل هو جوهر، أم هو محمول ذاتي على طبيعة ما، أم هو لا هذا ولا ذاك؟ لا يمكن أن يوجد اللامتناهي بالفعل... تلك هي حكمة قال بها أرسطاطاليس حينما نظر إلى الجسم المحسوس المحدود، وأكدها عن طيب خاطر تلميذه الكندي، لا يتصور أرسطاطاليس أن يوجد اللامتناهي بالفعل كجوهر، أو كمبدأ، أو كقدر أو كعدد، لأنه سيقبل إذن القسمة والتجزئة والتناهي والزيادة والنقصان. أن الجسم المحسوس الذي يتكون من عناصر متناهية العدد، والذي يوجد بطبيعته في مكان ما لا يقبل أن ينتسب إليه كما يقول أرسطاطاليس، وكما يتضح هذا بجلاء عند تلميذه الكندي، فكرة اللاتناهي بآية حال من الأحوال.
ولكن إذا حاول أرسطاطاليس أن ينكر فكرة انتساب اللاتناهي إلى الجسم المحسوس الموجود في المكان، فإنه قد يقبل وجود جوهر اللامتناهي بوجه ما. لأننا إذا أنكرنا، وكما تقول نصوص الطبيعيات فكرة اللامتناهي انكارا مطلقا وأبديا، فستكون إذن للزمان ولهذا العالم بداية ونهاية. وكانا بأرسطاطاليس يعبر عن هذا في أسلوب شعري جميل، وذلك حينما يقول:
ويتحقق اللامتناهي من أن كل شئ يبدو في الوجود من جديد، من أن كل محدود لا بد له أن يظهر في وضع مباين ومغاير. أن يتصور الحركة والزمان اللامتناهيين لا يفهم الا في عالم الامتثال، هذا الذي يجعلنا نظن الأشياء دائما