لدى طائفة البهرة الإسماعيلية، هذا الرجل هو القاضي أبو حنيفة النعمان بن أبي عبد الله محمد بن منصور بن حيون التميمي المغربي، ويعرف في تاريخ الدعوة الفاطمية باسم القاضي النعمان تمييزا له عن سميه أبي حنيفة النعمان صاحب المذهب السني المعروف. اختلف الناس في تاريخ مولده فذهب بعضهم مثل الأستاذ جوثيل إلى أنه ولد سنة 259 وتبعه الأستاذ ماسينيون في ذلك الرأي، ولكن الأستاذ آصف فيظي خالفهما وذهب إلى أنه ولد في العشر الأخير من القرن الثالث وليس لدينا ما يرجح أحد الرأيين. بل نصرح بأنه لم يصلنا شئ عن نشأته الأولى ولا عن آبائه وأسرته إلا ما رواه ابن خلكان: أن والده أبا عبد الله محمد قد عمر طويلا، وأنه كان يحكى أخبارا كثيرة نفيسة حفظها في كبره، وتوفي في رجب سنة 351 وصلى عليه ولده أبو حنيفة النعمان ودفن بأحد أبواب القيروان فحياة الأسرة غامضة أشد الغموض ولم يحفظ التاريخ شيئا عنها، ولا أدري من أين استقى الأستاذ جوثيل ما رواه من أن والد النعمان كان من رجال الأدب، إلا إذا كان قد فهم من نص ابن خلكان ذلك.
وليس لدينا شئ عن حياة النعمان قبل قيام الدولة الفاطمية سنة 296 ه وقبل اتصاله بعبيد الله المهدي الفاطمي مؤسس الدولة الفاطمية، إلا أنه كان مالكي المذهب وتحول إلى المذهب الفاطمي، ولكن مؤرخي الشيعة الاثني عشرية قالوا إن النعمان كان مالكي المذهب ثم تحول إلى الشيعة الاثني عشرية ثم انتقل إلى الإسماعيلية الفاطمية ويذهب أبو المحاسن إلى أنه كان حنفي المذهب قبل أن يعتنق المذهب الفاطمي. ولكن إذا أمعنا النظر في هذه الخلافات وجدنا أن الأرجح هو ما رواه ابن خلكان، فالمذهب المالكي هو المذهب الذي كان يسود شمال إفريقية والأندلس، على أن المذهب الحنفي كان قليل الانتشار بين المسلمين في إفريقية وفي مصر أيضا، وأن خلاصة تلاميذ مالك كانوا مصريين، وعن مصر انتقل هذا المذهب المالكي إلى شمال إفريقية والأندلس وساد هذه البلاد حتى قل أن نجد فيها مذهبا آخر من مذاهب أهل السنة، فمن المرجح أن النعمان كان على مذهب أهل بلاده، أما ما يدعيه الأستاذ آصف فيضي أن النعمان كان إسماعيلي المذهب منذ نعومة أظفاره وأنه اتخذ التقية والستر خوفا على نفسه وعلى مذهبه فهو كلام يحتاج إلى ما يؤيده، وكذلك لم يتحدث أحد من المؤرخين الذين ذكروا النعمان عن إسماعيليته إلا بعد صلته بالمهدي سنة 313 ه أي بعد أن أظهر المهدي نفسه في المغرب وهزم الأغالبة واحتل ديارهم. دخل النعمان في خدمة المهدي واتصل به، ولا ندري نوع الخدمة التي كان يؤديها ولا الصلة التي اتصلها به، ولكن بعد وفاة المهدي اتصل النعمان بالقائم بأمر الله طوال مدة حكمه.
وفي أواخر أيام القائم ولي النعمان قضاء مدينة طرابلس الغرب، أما قبل ولايته قضاء طرابلس فلا نكاد نعرف عنه شيئا. ولما بنى المنصور مدينة المنصورية كان النعمان أول من ولي قضاءها بل ولاه المنصور القضاء على سائر مدن إفريقية.
وأصبح النعمان شديد الصلة بالامام الفاطمي مقربا منه، وظل قاضي قضاة هذه المدن ومن تحته قضاتها، إلى أن ولي المعز لدين الله الإمامة فاشتدت صلة النعمان به حتى إنه كان يجالسه ويسايره وقل أن يفارقه بعد أن كان مستوحشا منه عقب ولايته. ولكن المعز طلب إليه أن يكون في عهده كما كان في عهد أبيه المنصور بالله، ثم قربت الصلة بين المعز والنعمان حتى أصبح النعمان جليسه ومسايره، ووضع النعمان كتابه المجالس والمسايرات جمع فيه كل ما رآه وما سمعه من إمامه المعز. ولما رحل المعز من إفريقية إلى مصر سنة 362 ه اصطحب معه بني النعمان، وكان النعمان إذ ذاك قاضي الجيش، وكان من الطبيعي أن يقلد النعمان قضاء مصر، ولكن المعز بعد أن استقر بمصر ترك القضاء لأبي طاهر الذهلي محمد بن أحمد الذي كان على قضاء مصر منذ سنة 348 ه وطلب إلى أبي طاهر أن يحكم بفقه الفاطميين، فكان لا بد للقاضي من أن يسترشد في أحكامه بالقاضي النعمان، وما زال كذلك حتى توفي النعمان سنة 363 ه.
ويقول ابن حجر: إن النعمان كان يسكن مصر أي الفسطاط ويغدو منها إلى القاهرة في كل يوم ويروى ابن خلكان عن المسبحي أن النعمان كان من أهل العلم والفقه والدين والنبل ما لا مزيد عليه، ونقل ابن خلكان عن ابن زولاق أن النعمان بن محمد القاضي كان في غاية الفضل من أهل القرآن والعلم بمعانيه. وعالما بوجوه الفقه وعلم اختلاف الفقهاء واللغة والشعر الفحل والمعرفة بأيام الناس مع عقل وإنصاف. وكل من تحدث عن النعمان من المؤرخين يذكر فضله وعلمه وسعة ثقافته، فلا غرابة إذن أن نرى هذه الكتب الكثيرة التي ألفها النعمان والتي أصبحت عمدة كل باحث في المذهب الفاطمي بل أصبحت الأصل الذي يستقي منه علماء المذهب: فلا أكاد أعرف عالما من علماء... الدعوة الفاطمية لم ينهج نهج النعمان في فقهه أو اختلف معه في رأي في المسائل الفقهية، وقد يكون ذلك لأن النعمان قال في كتابه المجالس والمسايرات: إن الامام المعز لدين الله طلب إليه أن يلقي على الناس شيئا من علم أهل البيت، فألف النعمان كتبه، وكان يعرضها على المعز فصلا فصلا وبابا بابا حتى أتمها، فهو يقول مثلا:
أمرني المعز لدين الله صلع بجمع شئ لخصه لي وجمعه وفتح لي معانيه وبسط لي جملته فابتدأت منه شيئا ثم رفعته إليه، واعتذرت من الابطاء فيه لما أردته من إحكامه ورجوته من وقوع ما جمعته منه بموافقته ص فطالعته في مقداره، فوقع إلي: يا نعمان لا تبال كيف كان القدر مع إشباع في إيجاز، فكلما أوجزت في القول واستقصيت المعنى فهو أوفق وأحسن، والذي خشيت من أن يستبطأ في تأليفه فوالله لولا توفيق الله عز وجل إياك وعونه لك لما تعتقده من النية ومحض الولاية لما كنت تستطيع أن تأتي على باب منه في أيام كثيرة، ولكن النية يصحبها التوفيق.
وفي كتابه هذا كثير من النصوص التي تدل على أنه كان يعرض كتبه على المعز قبل إذاعتها ونشرها بين الناس، كما أنه كان يقرأ مجالس الحكمة التأويلية ومن هنا لقبه ابن زولاق بالداعي وليس لدينا من النصوص ما يثبت أن النعمان كان من الدعاة، وإن كان مؤرخو المذهب المحدثون مثل الداعي إدريس يحدثنا في كتابه عيون الأخبار أن النعمان كان في مكانة رفيعة جدا قريبة من الأئمة. وأنه كان دعامة من دعائم الدعوة، ولكنه لم يصرح بان النعمان ولي مرتبة داعي الدعاة، وأغالي إذا قلت: إن النعمان هو أول من دون فقه المذهب الفاطمي، فلا أكاد أعرف فقيها من فقهاء المذهب قبله كتب في هذا الفن، وبين يدي الآن كتاب المرشد إلى أدب الإسماعيلية وهو ثبت لأسماء