ويرحل يوم السبت في الخامس من المحرم 390 ه. 22 كانون الأول 999 م. منكفئا إلى بلاده.
وحول دور ابن حيدرة في النكاية بالبيزنطيين، وتولية قيادة طرابلس، يقول التهامي في قصيدة مدحه بها:
وإلى ابن عبد الواحد القاضي ارتمت بلدا * كساحة صدره فيساحا...
ما زال هذا الثغر ليلا دامسا * حتى طلعت لليله إصباحا فجلت له الأيام بعد عبوسها * وجها كوجهك مشرقا وضاحا وحكمت في مهج العدو بحكمة * قرنت برأيك غدوة ورواحا فسفكت ما كان الصلاح بسفكه * وحقنت بعض دمائه استصلاحا فوفود شكر المسلمين وغيرهم * تأتي إليك أعاجما وفصاحا وفي هذه القصيدة إشارة إلى أن ابن حيدرة قام بحملة أخمد فيها حركة لبني كلاب، وهي إحدى أهم القبائل المناوئة للدولة الفاطمية في فلسطين وجنوب لبنان، وهذه معلومة لم نجدها في المصادر التاريخية البحتة، حيث يقول التهامي:
غادرت أسد بني كلاب أكلبا * إذ زرتهم وزئيرهن نباحا فنسوا النساء ودمروا ما دبروا * ورأوا بقا أرواحهم أرباحا يتلو هزيمهم السنان كأنه * حران يطلب في قراه قراحا والسمر قد لفتهم أطرافها * لفا كما اكتنف البنان الراحا فمعفر حسد الحياة وهارب * حسد الرفات القبر والصفاحا حتى إذا اقتنت القنا أرواحهم * قتلا وفرقت الصفاح صفاحا رفعوا أصابعهم إليك ونكسوا * أرماحهم فثنين منك جماحا وتركت أعينهم ب صور في الوغى * صورا وقد جاح الورى ما جاحا إلى أن يقول:
أنى تروم الروم حربك بعد ما * صليت بحربك محربا ملحاحا لم يرم قط بك الامام مراده * إلا جلوت عن الفلاح فلاحا ولقد غدوت أبا الحسين لجيشه * للقلب قلبا والجناح جناحا...
ويبرز دور ابن حيدرة مجددا في تثبيت النفوذ الفاطمي في بلاد الشام الشمالية، حين يلجأ أبو الهيجاء الحمداني إلى الإمبراطور باسيل فيما يستنجد مرتضى الدولة منصور بن لؤلؤ الجراحي بالخليفة الحاكم بأمر الله، ويتعهد بان يقيم على حلب واليا فاطميا من قبله. فرأى الحاكم في ذلك فرصة مناسبة لتدعيم نفوذه في حلب. وكان يرى أن عودة أبي الهيجاء إليها بمثابة عودة النفوذ البيزنطي إلى أهم مدن الشام الشمالية، ولذا سارع فانفذ إلى قاضي طرابلس ابن حيدرة وواليها القائد أبي سعادة بالتوجه نحو حلب، فخرجا في عسكر كثيف إليها، فاتفقت موافاة عسكر طرابلس إلى حلب مع نزول أبي الهيجاء بالقرب منها، وفتح مرتضى الدولة باب حلب للقاضي ابن حيدرة وأطلعه إلى القلعة، وسأله أن يكتب إلى الحاكم بواقع الحال بوساطة الحمام الزاجل، ولكن القاضي بادر فورا إلى الخروج للقاء أبي الهيجاء ومن معه من العرب، ووافاهم وقد عولوا على الجلوس إلى الطعام، ففاجأهم بالهجوم، وما لبثت القبائل العربية أن تخلت عن أبي الهيجاء، بعد أن كان مرتضى الدولة قد بذل لهم الوعود، فانهزم أبو الهيجاء راجعا إلى بلاد الروم، ونهب جميع ما كان معه.
وكان في قلعة إعزاز غلام من غلمان مرتضى الدولة، متهم بأنه كان يميل إلى أبي الهيجاء، فطلب منه مرتضى الدولة التنازل عن القلعة، فلم يجبه الغلام إلى ذلك، وتملكه الخوف منه، ولما شدد مرتضى الدولة طلبه، أجابه الغلام بأنه لا يسلم القلعة إلا إلى قاضي طرابلس. ولما كان ابن حيدرة ما يزال عند حلب فقد ذهب إلى القلعة وتسلمها من الغلام، ثم قام بتسليمها إلى مرتضى الدولة. وكتب إلى الخليفة الحاكم يطلعه على ذلك. وعاد إلى مرتضى الدولة يطلب منه إنجاز وعده الذي قطعه للخليفة بإقامة وال فاطمي على حلب، ولكن مرتضى الدولة دافعه ولم يبر بوعده. واضطر ابن حيدرة أن يعود إلى طرابلس دون أن يحقق ما كان يرغب به الخليفة.
وفي هذه الأثناء أي سنة 400 ه. 1009 م كان التهامي بطرابلس، فقال يذكر خروج ابن حيدرة إلى حلب وعودته منها في القصيدة التي مر بعض أبياتها:
شاء المهيمن أن تسير مشرفا * حلبا فقيض ما جرى وأتاحا وأردت إصلاح الأمور فأفسدت * فنهضت حتى استحكمت إصلاحا كانوا يرونك مفردا في جحفل * ووراء سور إن نزلت براحا ولا شك أن هذه القصيدة وأخرى غيرها، كانتا قبل مقتل ابن حيدرة بوقت قصير، حيث نقم الخليفة الحاكم على القاضي لكونه سلم قلعة إعزاز لمرتضى الدولة، فبعث إلى طرابلس قائدا وخادمين له فقطعوا رأسه وحملوه إلى مصر في أول سنة 402 ه.
وهكذا خسرت طرابلس قاضيا من أعظم قضاتها الذين أثبتوا صدق ولائهم للخلافة الفاطمية، وكان مثالا للقضاة العلماء العاملين، والمجاهدين المنافحين عن كرامة طرابلس الاسلامية ضد الغزاة الطامعين، والخونة المستسلمين.
وفي قصيدة ثانية للتهامي بحق القاضي ابن حيدرة نقف على معلومة مفادها أن نفوذه كان يصل إلى مدينة صور، وأنه كان يحسن لأهلها رغم أنهم كانوا يتمردون على الخلافة من حين لآخر، ولعله كان ينتدب من طرابلس من يتولى تصريف أمورها حين تكون خالية من الولاة، حيث يقول التهامي:
أعدى ندى كفيه صور وأهلها * والبدر يقلب طبع كل ظلام ولو أن صورا جنة ما استكثرت * وأبيك من غلمانه لغلام يعفو فيفعل حلمه بعدوه * ما تفعل الأسياف بالأجسام...
من آل حيدرة الذين شعارهم * فيض الندى الهامي وضرب الهام قهروا بحار الأرض أجمع بالندى * وجبالها برجاحة الأحلام يتسنمون من المعالي مرتقى * عنه تزل مواطئ الأقدام يتتابعون إلى العلاء تتابعا * كتتابع الأقدام في الاقدام يقعون من هذا الزمان وأهله * كمواقع الأعياد في الأيام ألفيت منهم في طرابلس ندى * ترك الكرام لدي غير كرام...
ويضيف التهامي أيضا إلى معلوماتنا معرفة أحد أبناء القاضي ابن حيدرة هو: أبو يحيى محمد بن علي بن حيدرة حيث لم نجده واردا في