وكبسها ليلا، وأخذ ربضها، وأسر كثيرا. ثم غزاها ثانية بعد ثلاثة أشهر فوصل إلى عرقة وسبى منها جماعة، وعاد في السنة التالية فغزاها للمرة الثالثة وسبى من بلادها كثيرا. وإزاء هذا، عزم الخليفة الفاطمي العزيز أن يخرج بنفسه لقتال البيزنطيين، وأمر بتجهيز حملة برية بقيادة جيش بن الصمصامة فدخلت طرابلس، كما أمر بانشاء أسطول بحري ليسير معه بحرا إلى طرابلس. وفيما كان العزيز يحشد العساكر في القاهرة، ورد عليه رسول سعيد الدولة بن حمدان يطلب الصفح، فأجيب إلى ذلك، واعترف ابن حمدان بخلافة العزيز.
وبعد طرد ابن نزال من طرابلس، عين جيش بن الصمصامة واليا عليها في سنة 385 ه. وبضعة أشهر من سنة 386 ه. ثم علي بن جعفر بن فلاح، ثم الأمير تميم التنوخي، ثم ميسور الصقلبي، فيما كان ابن حيدرة يتولى قضاءها وحكمها. وظل دوره بارزا أكثر من خمسة عشر عاما.
وحدث في سنة 387 ه. 997 م أن ثار أهل دمشق ضد القائد سليمان بن جعفر والحكم الفاطمي، وتغلب الأحداث عليها برئاسة رجل منهم يعرف ب الدهيقين. وقامت في السنة ذاتها ثورة في مدينة صور، وعصى أحداثها ورعاعها على الحاكم بأمر الله، وأمروا عليهم رجلا ملاحا من رجال البحرية يعرف ب العلاقة وقتلوا أصحاب الخليفة وموظفيه. وقام العلاقة بضرب السكة باسمه، ونقش عليها: عز بعد فاقة، وشطارة بلباقة، للأمير علاقة.
واتفق أن المفرج بن دغفل بن الجراح الذي كان متواطئا مع هفتكين السلجوقي المتولي على دمشق نزل في ذلك الوقت على مدينة الرملة، ونهب ما كان في السواد، وأطلق يد العيث في البلاد. فاستغل الإمبراطور باسيل هذه الاضطرابات التي تشهدها الشام، وانحسار النفوذ الفاطمي، لتحقيق أطماعه التوسعية، وراح يبذل جهده لتأليب أصحاب مدن الشام على الخليفة الفاطمي ليبث الفرقة بين القوى الاسلامية، وأمر قائده على أنطاكية داميانوس ليقوم بالغارة على أراضي المسلمين. إلا أن أطماع باسيل لم تتحقق، إذ غادر الدهيقين دمشق إلى مصر طائعا، وعادت دمشق للفاطميين، وسحقت حركة العلاقة في صور، واستسلم ابن الجراح للقوات الفاطمية، ولقي داميانوس أخيرا مصرعه، وانهزمت قواته.
وقد أسهم القاضي ابن حيدرة بشكل مباشر في:
1 القضاء على حركة العلاقة بصور في شهر جمادى الآخرة سنة 388 ه 998 م.
2 مقاتلة داميانوس عند أفامية، وإلحاق الهزيمة بالبيزنطيين بعد مصرع قائدهم، في السنة نفسها.
3 هزيمة الإمبراطور باسيل للمرة الثانية عند أسوار طرابلس في أول سنة 390 ه. 999 م.
فعلى جبهة صور، خرج ابن حيدرة بأسطول طرابلس البحري وتصدى لمراكب البيزنطيين التي أتت لمساعدة العلاقة في ثورته ضد الفاطميين، كما خرج أسطول فاطمي من صيدا، وتمكنت المراكب الاسلامية من الانتصار على الأسطول البيزنطي، واستولى المسلمون على مركب من مراكبهم، وقتلوا جميع رجاله، وعدتهم 150 رجلا، وقيل 200 رجل.
وعلى جبهة أفامية عند نهر العاصي، خرج ابن حيدرة بجند طرابلس والمتطوعة من عامتها، ومعه وإليها ميسور الصقلبي، وانضموا إلى جيش بن الصمصامة الذي كان يقود جيش الشام، فقاتلوا داميانوس وهزموا قواته بعد أن كاد يهزمهم، وصرعه أحد المقاتلين الأكراد.
وإزاء خيبة آمال باسيل في إضعاف النفوذ الفاطمي، ولما كان مشغولا في ذلك الوقت بمقاتلة البلغار، فقد حرص على تامين حدود امبراطوريته الشرقية، ولذا أرسل يطلب عقد هدنة مع الحاكم بأمر الله، ولكن الخليفة لم يجبه إلى رغبته بعد أن أحرزت عساكره الانتصارات المتتالية، فعقد باسيل العزم على الخروج بحملة جديدة إلى الشام لاسترداد هيبته بعد مقتل قائده وهزيمة قواته.
خرج الإمبراطور إلى الشام، بعد أن عين قائدا لقواته في بلغاريا، ونزل بجسر الجديد في شوال سنة 389 ه. 999 م وسار إلى أفامية فمر بسهولها حيث قتل داميانوس، وأمر بتشييد كنيسة هناك تخليدا لذكراه. ثم توجه إلى شيزر فحاصرها حتى اضطر صاحبها ابن كراديس لتسليمها له للمرة الثانية بعد أن قطع عن حصنها الماء، وخرج منها بعساكره، وصحبه عدد كبير من سكانها، وتوجهوا إلى حماة وحلب وبعلبك، فشحنها باسيل بالأرمن وانتقل منها إلى حصن أبي قبيس، فأخذه بالأمان، ثم راح بعد ذلك يخرب ويحرق ويدمر، فخرب حصن مصياف ونزل على رفنية فأحرقها وسبى أهلها، واستمر يحرق ويسبي ويخرب، إلى أن بلغ حمص فنزلها، وأحرق جنوده جماعة من أهلها اعتصموا بكنيسة مار قسطنطين. ثم انحدر إلى الساحل، فهاجم عرقة وأحرقها، وهدم حصنها، ثم نزل على طرابلس في شهر ذي الحجة آخر سنة 389 ه. كانون الأول آخر سنة 999 م. وزحف عسكره على حصنها في اليوم الثالث لنزوله، فكانوا كناطح صخرة.
ويبدو أن الإمبراطور طلب أثناء زحفه من أسطوله البحري أن يأتيه بالمدد، ويساعده على حصار طرابلس، حيث وصل إليه في البحر وهو نازل على طرابلس شلنديان يحملان لدوابه المؤن والعلف، فتقوى بها عسكره، إذ كانت دواب عسكره قد مات أكثرها في الطريق من حمص لشدة البرد، وقام ببث بعض سراياه على طول الساحل، فاتجه بعضها إلى جبلة في الشمال، وبعضها إلى جبيل وبيروت في الجنوب، فوقع في أيديها كثير من السبي والأسرى المسلمين، وجئ بهم إلى الإمبراطور فشحنهم في الشلنديان، وسيرهما إلى بلاده لبيعهم رقيقا في أسواق إزمير، وسالونيكا والقسطنطينية.
ولبث باسيل محاصرا لطرابلس 11 يوما، وصمد أهلها بقيادة القاضي ابن حيدرة وقائد عسكرها ميسور الصقلبي. وفي هذه الأثناء وصلته السفن الحربية، فقام في اليوم الثاني عشر الثلاثاء مستهل المحرم سنة 390 ه. بالهجوم على المدينة من البر والبحر، ونشبت معركة رهيبة على الجبهتين، أسفرت عن هزيمة ساحقة للامبراطور، ومقتل وجرح عدد كبير من جنوده. وأمام هذه الهزيمة الثانية له أمام طرابلس اضطر أن يلملم فلوله،