قال الصولي: قام من مرضه وقد اجتمعت الكتب والرقاع عنده فنظر في ألف كتاب، ووقع على ألف رقعة، فقلنا: بالله لا يسمع بهذا أحد، خوفا من العين عليه.
قال الصولي: ورأيت من أدبه أنه دعا خاتم الخليفة ليختم به كتابا، فلما رآه قام على رجليه تعظيما للخلافة، قال: ورأيته جالسا للمظالم، فتقدم إليه خصمان في دكاكين بالكرخ، فقال لأحدهما: رفعت إلى قصة في سنة اثنتين وثمانين ومائتين في هذه الدكاكين، ثم قال: سنك يقصر عن هذا، فقال له: ذاك كان أبي، قال: نعم وقعت له على قصة رفعها.
وكان إذا مشى الناس بين يديه غضب وقال: أنا لا أكلف هذا غلماني فكيف أكلف أحرارا لا إحسان لي عليهم.
وقتل نازوك صاحب الشرطة أبا الحسن بن الفرات المذكور وابنه المحسن يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر، سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة.
وكان عمر ابنه المحسن يوم قتل ثلاثا وثلاثين سنة.
قال الصاحب أبو القاسم بن عباد: أنشدني أبو الحسن بن أبي بكر العلاف قصائد أبيه أبي بكر في الهر وقال: إنما كنى بالهر عن المحسن بن أبي الحسن بن الفرات أيام محنتهم، لأنه لم يجسر أن يذكره ويرثيه.
وكان أبو العباس أحمد بن محمد بن الفرات أخو أبي الحسن المذكور أكتب أهل زمانه، وأضبطهم للعلوم والأدب، وللبحتري فيه القصيدة المشهورة التي أولها:
بت أبدي وجدا وأكتم وجدا * لخيال قد بات لي منك يهدي وتوفي أبو العباس المذكور ليلة السبت منتصف شهر رمضان سنة إحدى وتسعين ومائتين.
وأما أخوه أبو الخطاب جعفر بن محمد فإنه عرضت عليه الوزارة، فأباها، وتولاها ابنه أبو الفتح الفضل بن جعفر، وكان كاتبا مجودا، وهو المعروف بابن حنزابه، وهي أمه، وكانت جارية رومية، قلده المقتدر بالله الوزارة يوم الاثنين لليلتين بقيتا من ربيع الآخر سنة عشرين وثلاثمائة، وقيل:
خلع عليه في أول شهر ربيع الآخر سنة عشرين وثلاثمائة، والله أعلم، ولم يزل وزيره إلى أن قتل المقتدر لأربع بقين من شوال سنة عشرين وثلاثمائة، وتولى الخلافة أخوه القاهر بالله، فاستتر أبو الفتح بن حنزابه، فولى القاهر أبا علي محمد بن علي بن مقلة الكاتب الوزارة، ثم تولى أبو الفتح الدواوين في أيام القاهر أيضا، وخلع القاهر وسملت عيناه في يوم الأربعاء لست خلون من جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة.
وولي الخلافة الراضي بالله بن المقتدر بالله المقدم ذكره، فقلد أبا الفتح بن حنزابه الشام، فتوجه إليها، ثم إن الراضي بالله ولاه الوزارة، وهو يومئذ مقيم بحلب، وعقد له الأمر فيها يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من شعبان من سنة خمس وعشرين وثلاثمائة، وكوتب بالمسير إلى الحضرة، فوصل إلى بغداد يوم الخميس لست خلون من شوال من السنة، فأقام ببغداد قليلا، فرأى الأمور مضطربة، وقد استولى الأمير أبو بكر محمد بن رائق على الحضرة، فتحدث أبو الفتح مع ابن رائق في أنه يعود إلى الشام، وأطمعه في حمل الأموال إليه من مصر والشام، فعاد إليها في الثالث عشر من شهر ربيع الأول سنة ست وعشرين، فأدركه أجله بغزة، وقيل: بالرملة، وجاءت الكتب إلى الحضرة بموته في يوم الأحد لثمان خلون من جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وثلاثمائة، وكان مولده في ليلة السبت لسبع ليال بقين من شعبان سنة تسع وسبعين ومائتين (1)، وكانت الكتب تصدر باسمه في الشام.
وترجمة ابن الفرات تترتب على قضية ابن المعتز فلا بد من ذكر شئ من أحوالها، وأصح التواريخ نقلا تاريخ أبي جعفر محمد بن جرير الطبري، فنذكر ما قاله في حوادث سنة ست وتسعين ومائتين: إن القواد والكتاب اجتمعوا على خلع الخليفة المقتدر، وتناظروا فيمن يجعلونه موضعه، فاجتمع رأيهم على عبد الله بن المعتز، وناظروه في ذلك، فأجابهم إليه على أنه لا يكون في ذلك سفك دم ولا حرب، فأخبروه أن الأمر يسلم إليه عفوا، وأن جميع من وراءهم من الجند والقواد والكتاب قد رضوا، فبايعهم. على ذلك، وكان الرأس في ذلك محمد بن داود بن الجراح وأبا المثنى أحمد بن يعقوب القاضي، وواطأ محمد بن داود جماعة من القواد على الفتك بالمقتدر والعباس بن الحسن.
قلت: وكان وزير المقتدر يومئذ قال الطبري: وكان العباس بن الحسن على ذلك قد واطأ جماعة من القواد على خلع المقتدر والبيعة لعبد الله بن المعتز، فلما رأى أمره مستوثقا له مع المقتدر على ما يحب بدا له فيما كان عزم عليه من ذاك، فحينئذ وثب به الآخرون فقتلوه، يعني الوزير المذكور، قال الطبري: وكان الذي تولى قتله الحسين بن حمدان ووصيف بن صوارتكين، وذلك يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول، ولما كان من غد هذا اليوم، وذلك يوم الأحد، خلع المقتدر الكتاب والقواد وقضاة بغداد، وبايعوا عبد الله بن المعتز، ولقبوه بالراضي بالله، وكان الذي يأخذ البيعة له على القواد ويلي استحلافهم والدعاء بأسمائهم محمد بن سعيد الأزرق كاتب الجيش، وفي هذا اليوم كانت بين الحسين بن حمدان وبين غلمان الدار حرب شديدة من غدوة إلى انتصاف النهار، وفي هذا اليوم انفضت الجموع التي كان قد جمعها محمد بن داود لبيعة ابن المعتز عنه، وذلك أن الخادم الذي يدعى مؤنسا حمل غلمانا من غلمان الدار في الشذوات قلت: وهي عندهم المراكب قال: فصاعد بها وهم فيها في دجلة، فلما جاوزوا الدار التي فيها ابن المعتز ومحمد بن داود صاحوا بهم ورشقوهم بالنشاب، فتفرقوا وهرب من كان في الدار من الجند والقواد والكتاب وهرب ابن المعتز، ولحق بعض الذين بايعوا ابن المعتز بالمقتدر، فاعتذروا إليه بأنه منع من المصير إليه، واستخفى بعضهم، فطلبوا وأخذوا وقتلوا، وانتهبت العامة دور ابن داود، وأخذ ابن المعتز فيمن أخذ، انتهى ما ذكره الطبري في ذلك.
فنذكر ما قاله غيره، جمعته من مواضع متفرقة، حاصله أن عبد الله بن المعتز رتب للوزارة في ذلك اليوم محمد بن داود المذكور، وللقضاء أبا المثنى المذكور، فلما انتقض أمره وأخذ ابن المعتز استتر ابن داود، وكان من فضلاء