إذا قلت: أطراف الرماح تنوشه * مرثه له الساقان والقدمان (1) ثم ضرب بيده إلى ثديه وقال: ويحك إنما مثلي لا تعدو به الخيل، فقال:
إني لم أقل هذا لك إنما قلته لعتبة بن أبي سفيان.
ولما حد علي ع النجاشي غضب لذلك من كان مع علي من اليمانية وكان أخصهم به طارق بن عبد الله بن كعب بن أسامة النهدي فدخل على أمير المؤمنين ع فقال: يا أمير المؤمنين ما كنا نرى أن أهل المعصية والطاعة، وأهل الفرقة والجماعة عند ولاة العدل، ومعادن الفضل سيان في الجزاء، حتى رأيت ما كان من صنيعك بأخي الحارث، فأوغرت صدورنا (2)، وشتت أمورنا، وحملتنا على الجادة التي كنا نرى أن سبيل من ركبها النار، فقال علي ع: إنها لكبيرة إلا على الخاشعين يا أخا بني نهد، وهل هو إلا رجل من المسلمين انتهك حرمة من حرم الله فأقمنا عليه حدا كان كفارته، يا أخا بني نهد إن الله تعالى يقول: ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى.
فخرج طارق من عند علي وهو مظهر بعذره قابل له، فلقيه الأشتر النخعي فقال له: يا طارق أنت القائل لأمير المؤمنين: إنك أوغرت صدورنا وشتت أمورنا؟ قال طارق: نعم، أنا قائلها. قال له الأشتر: والله ما ذاك كما قلت، وإن صدورنا له لسامعة، وإن أمورنا له لجامعة. قال: فغضب طارق، وقال: ستعلم يا أشتر أنه غير ما قلت، فلما جنه الليل همس (3) هو والنجاشي إلى معاوية، فلما قدما عليه دخل آذنه فأخبره بقدومهما وعنده وجوه أهل الشام منهم عمرو بن مرة الجهني (4) وعمرو بن صيفي (5) وغيرهما، قال:
فدخلا عليه، فلما نظر معاوية إليه قال: مرحبا بالمورق غصنه، المعرق أصله، المسود غير المسود، في أرومة (6) لا ترام، ومحل يقصر عنه الرامي، من رجل كانت منه هفوة ونبوة (7) باتباعه صاحب الفتنة، ورأس الضلالة والشبهة، التي اغترز (8) في ركاب الفتنة حتى استوى على رحلها ثم أوجف في عشوة ظلمتها وتيه ضلالتها (9)، واتبعه رجرجة من الناس (10)، وهنون من الحثالة (11)، أما والله ما لهم أفئدة أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها.
فقام طارق فقال: يا معاوية إني متكلم فلا يسخطك أول دون آخر، ثم قال وهو متكئ على سيفه: إن المحمود على كل حال رب علا فوق عباده فهم منه بمنظر ومسمع، بعث فيهم رسولا منهم لم يكن يتلو من قبله كتابا ولا يخطه بيمينه إذا لارتاب المبطلون، فعليه السلام من رسول كان بالمؤمنين برا رحيما.
أما بعد فانا كنا نوضع (12) فيما أوضعنا فيه بين يدي إمام تقي عادل في رجال من أصحاب رسول الله ص أتقياء مرشدين، ما زالوا منارا للهدى ومعالم (13) الدين خلفا عن سلف مهتدين، أهل دين لا دنيا، وأهل الآخرة كل الخير فيهم، واتبعهم من الناس ملوك وأقيال، وأهل بيوتات وشرف، ليسوا بناكثين ولا قاسطين، فلم تك رغبة من رغب عنهم وعن صحبتهم إلا لمرارة الحق حيث جرعوها، ولو عورته حيث سلوكها، وغلبت عليهم دنيا مؤثرة، وهوى متبع وكان أمر الله قدرا مقدورا وقد فارق الاسلام قبلنا جبلة بن الأيهم (14) فرارا من الضيم وأنفا من الذلة فلا تفخرن يا معاوية أن قد شددنا إليك الرحال وأوضعنا نحوك الركاب، فتعلم وتنكر. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولجميع المسلمين.
ثم التفت إلى النجاشي وقال: ليس بعشك فادرجي (15) فشق على معاوية ذلك وغضب ولكنه أمسك فقال: يا عبد الله ما أردنا أن نوردك مشرع ظما، ولا أن نصدرك عن مكرع رواء، ولكن القول قد يجري بصاحبه إلى غير الذي ينطوي عليه من الفعل، ثم أجلسه معه على سريره، ودعا له بمقطعات (16) وبرود فصبها عليه، ثم أقبل عليه بوجهه يحدثه حتى قام.
فلما قام طارق خرج وخرج معه عمرو بن مرة، وعمرو بن صيفي الجهنيان فأقبلا عليه يلومانه في خطبته إياه وفيما عرض لمعاوية.
فقال طارق لهما: والله ما قمت بما سمعتماه حتى خيل لي أن بطن الأرض أحب إلي من ظهرها عند إظهاره ما أظهر من البغي والعيب والنقص لأصحاب محمد ص ولمن هو خير منه في العاجلة والآجلة وما زهت به نفسه، وملكه عجبه وعاب أصحاب رسول الله ص واستنقصهم ولقد قمت مقاما عنده أوجب الله علي فيه أن لا أقول إلا حقا، وأي خير فيمن لا ينظر ما يصير إليه غدا؟! وأنشأ يتمثل بشعر لبيد بن عطارد التميمي:
لا تكونوا على الخطيب مع الدهر * فاني فيما مضى لخطيب