تبدو إمارات الكريم بوجهه من بشره وحيائه وسجوده فالقصيدة تؤكد أن الممدوح هو محمد بن سلامة، ولكن الديوان لا يعرف به، وهو غير وارد في ديوان عبد المحسن الصوري المعاصر للتهامي.
فمن هو إذا؟
للجواب على ذلك، نقول:
هناك شخص واحد يحتمل أن يكون المقصود في الديوان هو محمد بن سلامة بن جعفر... أبو عبد الله القاضي القضاعي المصري الفقيه الشافعي، قاضي الديار المصرية في الدولة الفاطمية، وكان قد نزل صور وطرابلس، فسمع بطرابلس من أبي القاسم حمزة بن عبد الله الشامي الأطرابلسي. وأبي الحسن لبيب بن عبد الله الأطرابلسي. وجلس هو للحديث، فحدث بكتاب الشهاب من تصنيفه، فسمعه بها شيخ من أهل جبيل هو مكي بن الحسن المعافى السلمي الجبيلي.
وكان القاضي القضاعي قد ذهب رسولا إلى القسطنطينية من قبل الخليفة الفاطمي، وجاء في تاريخ دمشق لابن عساكر ما نصه:
وقال أبو الفتح نصر الله بن محمد الفقيه: سمعت أبا الفتح نصر بن إبراهيم الزاهد يقول: قدم علينا القاضي أبو عبد الله القضاعي صور رسولا للمصريين إلى الروم، فذهب ولم أسمع منه، ثم إني رويت عنه بالإجازة، يعني أنه لم يرضه في أول الأمر لدخوله في الولاية من قبل المصريين....
فلعل التهامي التقى بالقضاعي في صور وهو في رحلته رسولا إلى القسطنطينية، وهذا ما نرجحه.
ونعود مع التهامي إلى طرابلس حيث يمدح قاضيها أبا الحسين بن عبد الواحد، ويعطينا من خلال شعره بعض المعلومات التي يمكن أن نضيفها إلى ما نعرفه عن سيرته من المصادر التاريخية الأخرى.
فمن هو قاضي طرابلس؟.
هو: أبو الحسين علي بن عبد الواحد بن محمد بن أحمد بن الحر حيدرة بن سليمان بن هزان بن سليمان بن حيان بن وبرة المري الطرابلسي الكتامي وهو مغربي من قبيلة كتامة، أشهر القبائل المغربية التي قامت على أكتافها الدعوة الفاطمية. وكان محدثا، أخذ عن محدث طرابلس ومسندها الكبير خيثمة بن سليمان بن حيدرة وهو من بني حيدرة، وغيره. وله كتاب روى فيه عن أبيه عبد الواحد. وأسرة حيدرة من الأسر المشهورة بطرابلس في ذلك العصر، ومنها أبناء حيدرة الذين كانوا فيها حين نزلها أبو الطيب المتنبي حول سنة 336 ه.
وقد لعب القاضي أبو الحسين دورا مهما في تاريخ طرابلس، وأسهم في هزيمة الإمبراطور البيزنطي باسيل الثاني مرتين، وكان هو المستولي على النظر في طرابلس وفي سائر الحصون، من نواحي جونية وجبال العاقورة والمنيطرة في الجنوب، حتى نواحي مدينة حلب وإعزاز في الشمال. كما كان له دوره في القضاء على حركة العلاقة في مدينة صور، وتثبيت النفوذ الفاطمي في سواحل الشام. كما أن منصبه الديني كقاض، وهو بمثابة داعية فاطمي، كان يجعله متمتعا بصلاحيات واسعة، بحيث تفوق صلاحيات والي المدينة، وقائد جيشها.
وتبدأ المصادر التاريخية بذكره في معرض الحملة الأولى للامبراطور باسيل إلى بلاد الشام، في سنة 385 ه. 995 م فقد أخرج الخليفة الفاطمي العزيز قائده منجوتكين إلى حلب لينتزعها من سعيد الدولة، فأرسل سعيد الدولة يستنجد بالإمبراطور قائلا في رسالته إليه: متى أخذت حلب أخذت أنطاكية، ومتى أخذت أنطاكية أخذت قسطنطينية.
وعلى الرغم من أنه كان مشغولا بالقتال في الجبهة البلغارية فقد قرر باسيل المضي بنفسه إلى حلب، فعاد إلى عاصمته القسطنطينية وخرج منها على رأس جيش ضخم قوامه 40 ألفا، عبر به إقليم الثغور، حيث انضمت إليه مجموعات كبيرة من عساكرها، ووصل إلى أنطاكية، فصحبه ميخائيل البرجي بعساكره، ومعه قائده مليسينوس.
ولما وصل باسيل إلى حلب، خرج إليه سعيد الدولة وجدد معه معاهدة التحالف بين القسطنطينية وحلب، التي تضمنت شروطا في صالح التجار المسيحيين المقيمين في حلب. وأقام باسيل يومين عند حلب، ثم رحل في اليوم الثالث، فنزل على شيزر واستولى على حصنها بعد مقاومة صاحبه منصور بن كراديس، التي لم تدم سوى يوم واحد. وقرر له مالا وثيابا مقابل تسليم الحصن، ووضع فيه نوابه وثقاته. وتحول بعد ذلك إلى حمص ففتحها، وكذلك رفنية. ونهب وسبى منهما سبيا كثيرا، وأحرق وغنم. وفي طريقه إلى طرابلس أغار على عسكره جماعة من العرب، فأسر عددا منهم، وواصل سيره حتى نزل على طرابلس وحاصرها. فراسله وإليها ابن نزال في جمع من أهلها لابرام الاتفاق مع الإمبراطور.
وهنا يبرز دور قاضي طرابلس ابن حيدرة على مسرح الأحداث، فيتزعم حركة الصمود في وجه البيزنطيين، ويقود حملة مناهضة ضد والي المدينة ومن معه، وينضم إليه العسكر والأهالي منادين بالجهاد وقتال العدو، وطرد وإليهم المتخاذل من بين ظهرانيهم. واتخذوا قرارا بتعيين آخر مكانه، ولما أراد الوالي العودة إلى البلد، أغلق أهلها الباب في وجهه ومنعوه من دخولها، ثم أخرجوا أفراد أسرته إليه، واستعدوا للقتال. فأقام باسيل محاصرا لطرابلس نيفا وأربعين يوما. وبذل قصارى جهده لفتحها، ولكنه واجه مقاومة عنيدة من المدافعين عنها، ولم يستطع أن ينقب ثغرة في أسوارها أو ينل من تحصيناتها. ووصف المؤرخ ابن القلانسي مناعة ثغر طرابلس بقوله:... وهو بري بحري، متين القوة والحصانة، شديد الامتناع على منازله....
ولما لم يجد الإمبراطور فرصة في اقتحام طرابلس، رفع حصاره وارتد عنها حسيرا مصطحبا ابن نزال معه، فنزل على أنطرسوس وهي خراب، فعمر حصنها، وشحنه بأربعة آلاف من الأرمن والمقاتلة، ورحل إلى أنطاكية، وهناك عين البطريق الدوقس داميانوس وأوكل إليه أمر المحافظة على ممتلكات الإمبراطورية في الشرق، وحماية مدينة حلب من النفوذ الفاطمي، ومهاجمة طرابلس التي كانت تمثل القاعدة الاسلامية المتقدمة على ساحل الشام في البر والبحر، فقام داميانوس بغزوة إليها بعد تعيينه مباشرة