وكان ظهور هذا الوعد في الصوان، ومصيره المجهول بعد ذلك، بالنسبة للمعنيين بدراسة مسكويه غمامة أبرقت كما قال القائل قوما عطاشا، فلما رأوها، أقشعت وتجلت ولم تمطر ما يشفي غليلهم.
وأما تصنيفه تجارب الأمم، الذي ضمنه في الجزأين الأخيرين منه حوادث عصره، ومن خلالها بعض حوادث حياته، فهذا المصدر أيضا، يتوقف عند سنة 369 ه، وهذا يعني أن مسكويه عاش بعد ذلك حوالي نصف قرن، تاركا كتابة الحوادث المتبقية من عصره، الحوادث التي كان من شانها أن تلقي مزيدا من الضوء على النصف الثاني من حياته أيضا، وذلك من خلال اتصاله الوثيق بالشخصيات المشاركة في تلك الحوادث، حيث كان مسكويه من وجوه أوساطهم.
الفترة التي عاشها عاش مسكويه حوالي مائة سنة، ووصل إلى أرذل العمر الذي امتد من سنة 320 ه على الأقوى، إلى التاسع من صفر سنة 421 ه بالتحديد على ما ذكره ياقوت نقلا عن يحيى بن مندة. ويبدو أن مرجوليوث هو أول من حاول تحديد مولد مسكويه، وذلك في المقدمة التي قدمها لترجمته الإنجليزية للجزأين الأخيرين من تجارب الأمم انظر:...، فنراه وقد حدد مولد مسكويه مؤقتا سنة 330 ه، ثم يعود قائلا: أو أسبق بقليل. ثم يحاول الدكتور عزت ص 79 80 تقديم هذا التاريخ من 330 إلى 325 ه كما يقدمه الدكتور عبد الرحمن بدوي ص 20 21 أكثر من ذلك ويجعله سنة 320 قائلا: إن لم يكن قبل ذلك. وأما الدلائل أو الأمارات الموجودة لتحديد مولد مسكويه فهي:
1 - ما قاله مسكويه نفسه في تجارب الأمم في مقدمة حوادث سنة 340 فصاعدا، وذكر مصادره في تقرير تلك الحوادث. قال: أكثر ما أحكيه بعد هذه السنة، أي بعد سنة 340 ه فهو عن مشاهدة وعيان، أو خبر محصل يجري عندي خبره مجرى ما عاينته. وذلك أن مثل الأستاذ الرئيس أبي الفضل محمد بن الحسين بن العميد رضي الله عنه خبرني عن هذه الواقعة وغيرها بما دبره وما اتفق له فيها، فلم يكن إخباره لي دون مشاهدتي في الثقة والسكون إلى صدقه، ومثل أبي محمد المهلبي رحمه الله خبرني بأكثر ما جرى في أيامه، وذلك بطول الصحبة وكثرة المجالسة، وحدثني كثير من المشايخ في عصرهما بما يستفاد منه تجربة وأنا أذكر جميع ما يحضرني ذكره، وما شاهدته وجربته بنفسي فسأحكيه أيضا بمشيئة الله.
2 - ما قاله مسكويه في تجارب الأمم أيضا عن نفسه، انظر حوادث سنة 341. وذلك عند ذكر معز الدولة بالحدة والبذاءة، وموقف الوزير المهلبي من أخلاقه. قال مسكويه: وكان معز الدولة حديدا، سريع الغضب، بذيء اللسان، يكثر سب وزرائه والمحتشمين من حشمه، ويفتري عليهم، فكان يلحق المهلبي رحمه الله من فحشه وشتمه عرضه ما لا صبر لأحد عليه، فيحتمل ذلك احتمال من لا يكترث له وينصرف إلى منزله، وكنت أنادمه في الوقت، فلا أرى لما يسمعه فيه أثرا، ويجلس لأنسه نشيطا مسرورا....
أما في الدليل الأول فيحدثنا مسكويه عن طول الصحبة وكثرة المجالسة التي كانت بينه وبين الوزير المهلبي، وفي الدليل الثاني يقول: وكنت أنادمه في الوقت.
والمعروف أن المهلبي قد تولى الكتابة لمعز الدولة سنة 339 ه وخوطب بالوزارة سنة 345 ه، وتوفي في شعبان سنة 352 انظر التجارب، حوادث سنوات 339، 345، 352، والفترة الواقعة بين سنتي 339 و 352 هي التي كانت فيها تلك المنادمة والصحبة والمجالسة، التي وصفها مسكويه بالكثرة والطول. نعم صحيح أنه قد صحب الوزير المهلبي في أيام شبيبته كما صرح به أبو سليمان أيضا في الصوان ص 346 347 ولكن مسكويه في هذه الشبيبة، لا يمكن أن تكون سنه أقل من 25 سنة، وخاصة بالنظر إلى أنه كان من خواصه ووجوه المختصين به كما أضاف أبو سليمان وكان من الحنكة والبصيرة على مستوى جعل المهلبي يتخذه نديما له ويخبره بأكثر ما جرى في أيامه، كما جعل مسكويه يعد نفسه مصدرا من مصادر تاريخ سنة 340 فصاعدا، وذلك في قوله: وأنا أذكر جميع ما يحضرني ذكره، وما شاهدته وجربته بنفسي، فسأحكيه بمشيئة الله. فبذلك لا يصح أن يكون مولده بعد سنة 320، كما تكون منادمته وصحبته الطويلة ومجالسته الكثيرة للوزير المهلبي ابتداء من عام 345 أي دون احتساب الخمس السنوات الأولى 339 344 ه من وزارة المهلبي وذلك لبعض الاحتمالات السلبية التي قد تعتري هذا الافتراض.
3 - وهناك دليل آخر، وهو دليل على طول عمره أكثر من كونه دليلا على تحديد سنواته أو تحديد ميلاده، وهو أن لمسكويه أبياتا يشكو فيها سوء أثر الهرم وبلوغه أرذل العمر انظر الثعالبي التتمة ص 96.
فبهذا لا نستبعد أن يكون مسكويه قد عمر مائة سنة كاملة 320 421 إن لم نقل أكثر من ذلك، وعاش قرنا كاملا هو ألمع القرون الاسلامية حضارة، وهو عصر النهضة في الاسلام كما سماه آدم متز. وإذا عرفنا أن دولة البويهيين قد بدأت هي أيضا في سنة 320 ه، فيكون مسكويه والدولة البويهية، تربين، أو، لدين، تعاصرا قرنا كاملا. والسنوات المائة هذه كانت قمة ازدهار تلك الدولة. وأما السنوات المتبقية من عمر الدولة 27 421 448 ه فهي سنوات تنحدر الأسرة البويهية فيها، إلى الضعف والاضمحلال. فبذلك، يصبح مسكويه وثيقة حية من أوثق وثائق تلك الحقبة التاريخية التي لها خصائص وميزات في تاريخ الفكر والعلم الاسلاميين، وإن كانت بالنسبة للخلافة العباسية عصر تفكك وتعدد في مراكز الحكم، وهذا بالذات، أدى إلى تعدد مراكز العلم أيضا، كما أدى إلى ازدهار تلك المراكز، ونبوع العلماء المنتمين إلى مختلف أرجاء العالم الاسلامي آنذاك، وذلك لتنافس الأمراء وتفاخرهم فيما بينهم باجتذاب العلماء والأدباء إلى بلاطاتهم. فنبغ في غضون ذلك رجال علم وحكمة وأدب وسياسة عاصرهم مسكويه وعاصروه، وكان مسكويه على اتصال وثيق بكثير منهم.
مسكويه، لا ابن مسكويه واختلفوا لا سيما في القرون الاسلامية الأخيرة في أنه: من هو الملقب بمسكويه؟ هو، أو أبوه محمد، أو جده يعقوب؟.
والواقع أن مسكويه لقبه هو، وأما الاختلاف الموجود بهذا الصدد، فيرجع