وراية رفعت للمجد خافقة * تحوي على علم بالنصر منشور وعسكر ملأ الآفاق محتشد * من كل قطر من الأقطار محشور وهكذا نرى أن العرب كانوا في الدولة العثمانية يتمتعون بما يمكن أن نسميه بالاستقلال الذاتي، وأن للغتهم المكانة التي تستحقها، وأن تلك الدولة ردت عنهم الهجمة الصليبية، وإنها تحميهم من مثيلاتها، فلا عجب إذن أن يرتضوها.
أما حين تبدل الحال وبدأت تنمو في الأتراك الروح الطورانية، وبعد أن قام في الأتراك مثل عبيد الله من يدعو إلى طمس أسماء الخلفاء الراشدين المكتوبة على قباب المساجد التركية لأنها أسماء عربية وإبدالها بأسماء الخلفاء الأتراك. وبعد أن ألفت جمعية تورك ياوردي دعاء ليتلى في المساجد التركية جاء فيه: وأنت يا مملكة توران الجميلة المحبوبة أرشدينا إلى الطريق المؤدية إليك لأن جدنا أوغوز الكبير ينادينا.
أما حين صار الأمر إلى هذا الحال بعد أن كان في الأتراك مثل نامق كمال الذي يقول مخاطبا الوطن: اذهب أيها الوطن وتدثر بالسواد في الكعبة ثم ابسط إحدى ذراعيك إلى روضة النبي ومد الثانية إلى المشهد في كربلاء ثم افتح صدرك واخرج منه شهداءك وانثرهم على الملأ وقل: يا رب هؤلاء هم الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم في سبيلك، بينهم من استشهد ببدر ومن استشهد في حنين.
أما حين حل عبيد الله محل نامق كمال، وحين فقد العرب كل حقائق الاستقلال الذاتي، وحين أصبح الحكم التركي حكما مركزيا متسلطا على العرب، وحين صارت اللغة العربية غريبة حتى في بلاد العرب، أما حين حل كل هذا وما هو شر من هذا، فقد بدأ التهامس العربي، ثم بدأت الأصوات ترتفع قليلا قليلا حتى تحولت إلى الجهر لا جهرا باللسان كما قلنا في مفتتح القول بل جهرا بالسنان، جهرا يتلظى بنيران البنادق ولهيب المدافع...
ومن الحقائق التي ليست معروفة أن الذين بدأوا بهذا التهامس، ثم أتبعوه بشئ من ارتفاع الصوت، هم الفقهاء. فالفقيه الفلسطيني الشيخ يوسف النبهاني زار استنبول باعتبارها عاصمة الخلافة الاسلامية، وباعتباره من كبار الفقهاء المسلمين، فأحس فيها التحول الجديد وشعر بما يبيت للعرب فتركها عائدا إلى بلاده قائلا:
ويممت دار الملك أحسب أنها * إلى اليوم لم تبرح إلى المجد سلما فألفيت فيها أمة عربية * يرى الترك منها أمة الزنج أكرما وما نقموا منا بني العرب خلة * سوى أن خير الخلق لم يك أعجما بني الترك أني تكلمت هاجيا * ولكن قلبي من جفاكم تكلما وسبقه إلى ذلك فقيه آخر من كبار الفقهاء اللبنانيين هو السيد نجيب فضل الله، أحس هو أيضا بما أحس به الفقيه النبهاني. وهو وإن لم يزر استنبول كان يلمح في الأفق انحرافا وإن كان لا يبدو شاملا فهو ينذر بالكثير.
فقصد إلى مكة حاجا واتصل بالشريف عون محرضا إياه على الثورة وإعادة الخلافة عربية.
وكما كان الشيخ يوسف النبهاني شاعرا فعبر عن نقمته بالشعر كذلك كان السيد نجيب فضل الله شاعرا هو الآخر فعبر عن ثورته بالشعر أيضا، فقال من قصيدة يخاطب بها الشريف عون:
إني وجدتك يا بن بنت محمد * أرج الخلافة من ثيابك يعبق لو قمت فينا ملهبا نار الوغى * خفت إليك بنا الجياد السبق يحملن منا كل أشوس أقعس * بحسامه هام الكماة تفلق وما دمنا في حديث الشعر فان شعرا سبق شعر هذين الفقيهين في هذا الموضوع، وكان هذا الشعر عراقيا، هو شعر الشاعر احمد الشاوي الذي قال:
الا ليت شعري والأماني ضلة * وعمر الفتى ان عاش ما عاش للهلك أمخترمي ريب المنون ولم أكن * لأدرك للاسلام ثارا من الشرك وأبرد من صهب العثانين غلتي * وأشفي واستشفى غليلي من الترك على أن التحرك العربي الفعال كان بعد سنة 1908، سنة إعلان الدستور العثماني، فالذين أسقطوا السلطان عبد الحميد وأعلنوا الدستور إعلانا نهائيا كانوا جماعة حزب الاتحاد والترقي. وقد هلل العرب للعهد الجديد وأنشأوا للحزب فروعا في بلادهم، وحسبوا أن الحرية ستشملهم. وشيئا فشيئا بدأت تتكشف نوايا الاتحاديين وأخذت الدعوة الطورانية (1) بالتظاهر وأطل التتريك واضحا.
وكان وراء حزب الاتحاد والترقي جمعية تركيا القتاة، التي كانت هي الموجه الفعلي للاتحاد والترقي، وكان الحزب وجهها العلني، بينما كانت هي قاعدته السرية.
وبالمقابل عمل الشبان العرب على إنشاء جمعية العربية الفتاة، وكان منشؤوها طلابا يدرسون في باريس، وكانوا يدركون نوايا الاتحاديين، فقاموا سنة 1911 بتأليف جمعيتهم. وكان هدفها كما قالت: النهضة بالعرب وإيصالهم إلى مصاف الأمم الحية. ولم تذكر الجمعية كلمة الاستقلال، ولكنها في الحقيقة كانت تعمل من أجله بعد أن بدا من الاتحاديين ما بدا...
وفي صيف سنة 1913 أنهى أكثر أعضاء الهيئة الإدارية للجمعية دراستهم في باريس وعادوا إلى بلدانهم، ولما كان بعضهم من بيروت فقد أعيد تأليف الهيئة فيها، وبدأت الجمعية نشاطها السري وأنشأت جريدة المفيد مظهرا علنيا لها. كما أنها وضعت تصميم العلم العربي بألوانه الثلاثة: الأخضر فالأبيض فالأسود، الذي أضيف إليه عند إعلان الثورة في الحجاز اللون الأحمر.
ولما اشتركت الدولة العثمانية في الحرب العامة الأولى 1 تشرين الثاني 1914 أصبحت دمشق مقر قيادة الجيش الرابع ومركز العمل في سورية، فانتقلت لهيئة الإدارية لجمعية العربية الفتاة إلى دمشق وواصلت عملها السري، ثم اتصلت بجمعية العهد العسكرية لتوحيد الجهود العربية.
وحتى هذا الوقت لم تشأ الجمعيتان معاداة الأتراك أو عرقلة مجهودهم