كان هؤلاء الثلاثة في الواقع قادة الموقف من أوله إلى آخره، وسيكونون بعد حين نواة حزب الشعب.
وسرى نبا القبض على الثلاثة في دمشق مسرى النار في الهشيم فتحفزت النفوس، وفي يوم الجمعة خطب الخطباء في المسجد الأموي محرضين مثيرين فخرجت المظاهرات متحدية طالبة الافراج عنهم، فقبضت السلطة على مجموعة من الشبان، فلم تتوقف المظاهرات وأطلق عليها الرصاص واشترك فيها النساء. ثم أعلن ما يشبه الأحكام العرفية ومنع التجول واحتل الجند المدينة في كل مكان وسيق المعتقلون إلى محكمة عسكرية فرنسية حكمت على الشهبندر بالسجن عشرين سنة، وعلى سعيد حيدر بالسجن خمس عشرة سنة، وعلى حسن الحكيم بالسجن عشر سنوات، وعلى معتقلين آخرين بأحكام مختلفة أقلها خمس سنوات وسيق الجميع إلى جزيرة أرواد ليقضوا مدة السجن في سجنها.
وكان بين المسجونين نجيب الريس الذي كان يومذاك في مطلع شبابه، ثم أصبح أبرز صحافي سوري باصداره جريدة القبس وكانت افتتاحياته فيها لا تبارى بلاغة وفكرة وعمقا، وكان يحرص دائما على أن يختمها ببيت من الشعر المأثور.
وفي خلال وجوده في سجن أرواد نظم قصيدة كانت شهيرة في سورية يخاطب بها جزيرة أرواد يقول فيها:
بنت الخضم وكم في الشام من شفة * هتافة باسم شاطيك ومن فيه ونظم النشيد الذي سار على كل شفة ولسان، وتجاوز حدود سورية إلى لبنان وفلسطين والعراق وغيرها ومطلعه:
يا ظلام السجن خيم * إننا نهوى الظلاما ليس بعد الليل إلا * فجر مجد يتسامى وفي 25 تشرين الثاني سنة 1922 سافر الجنرال غورو إلى باريس، ثم لم يعد، وفي 19 أيار سنة 1923 وصل مفوض سام جديد هو الجنرال ويغان، وفي 18 تشرين الأول سنة 1923 أطلق سجناء أرواد. وفي 22 كانون الأول سنة 1924 وصل الجنرال ساراي ليحل محل الجنرال ويغان، وقد لاح من تصرفاته أنه أقرب إلى التفاهم من سلفيه، ولكن سوء الحظ رافقه فقامت الثورة الكبرى في عهده وليس هنا مكان الحديث المفصل عن الثورة.
وكان المفوض السامي الجديد قد أعلن قبل الثورة أنه مستعد لسماع الشكاوى والنظر فيها. وحتى هذا الوقت لم يكن في جميع البلاد السورية أي حزب أو تنظيم أو تكتل سياسي يجتمع حوله الوطنيون ويقود النضال في وجه الفرنسيين، وكل ما كان موجودا هو أحاديث يتداولها الناس في بيوتهم أو مكاتبهم كلما التقى اثنان أو أكثر: وكان الثلاثي الأروادي: الشهبندر وحيدر والحكيم يكثر اللقاء فيما بينه ومع غيره.
ثم صدرت جريدة المفيد يومية باسم يوسف حيدر شقيق سعيد الأكبر، وكان الكاتب الأول فيها والمشرف فعليا على توجيهها هو سعيد، فكان مكتبها ملتقى يوميا للمفكرين الوطنيين الذين انبثق منهم حزب الشعب كما سنرى.
وكانت الصوت الوطني المتعالي، والتف حولها شيوخ الكفاح وكهوله وشبانه، فكانت لسانهم الناطق. بل كانت المدرسة الوطنية الناجحة.
لقد كانت مقالات سعيد حيدر نبراسا وهاجا ينير السبيل أمام التائهين، وكان قلمه المحرك المثير للعزائم.
ولم تكن المفيد بمستطيعة أن تقول كل شئ، ولا كانت قادرة على أن تصرح بجميع ما يجب التصريح به، والدعوة إلى كل ما تريد أن تدعو إليه، لأن سيف التعطيل الإداري كان مسلطا فوق رأسها يهددها عند أول بادرة.
لذلك كانت تلجأ إلى الرمز، وما كان أوضح هذا الرمز عند النفوس المتعطشة إلى كل كلمة وطنية.
ولن أنسى أبدا ما كتبه سعيد حيدر بتوقيع س وما صور به في المفيد بقلمه في صباح الثامن من آذار.
وما صباح اليوم الثامن من آذار؟ إنه صباح اليوم الذي أعلنت فيه سورية استقلالها التام الناجز وصرخت بوجه الدنيا متحدية قوى الاستعمار بأنها تريد أن تعيش حرة سيدة نفسها.
ولم يلبث الحلم السعيد أن عاش بضعة شهور فقط، ولم يلبث أن هوى في يوم ميسلون...
وجاءت ذكرى الثامن من آذار والاستعمار الفرنسي يجثم بكل شراسته على صدر الوطن الجريح.
جاءت الذكرى العظيمة فكان لا بد لجريدة المفيد وسعيد حيدر من أن يحتفلا بها احتفالا يليق بجلالها، احتفالا يوقظ النفوس ويلمس القلوب، ويوقظ الغافي ويهز الهامد، بل يثير ويستفز.
يفعل كل ذلك دون أن يثير ريبة المستعمرين أو يلفت أنظارهم لما يريد فيبطشوا بالمفيد.
ولقد كان للمفيد ولسعيد حيدر ما أرادا وخرج مقالة في صباح 8 آذار قطعة أدبية رائعة وجذوة وطنية لاهبة ملهبة.
وكرمت دمشق بلسان سعيد حيدر وقلمه، كرمت ذكرى 8 آذار أنضر تكريم وأزكاه، أعنف تكريم وأقساه، كرمت هذه الذكرى لأول مرة بعد دخول الفرنسيين دمشق وسيطرتهم على الوطن.
وختم سعيد حيدر مقاله بأبيات مهيار الديلمي:
اذكرونا مثل ذكرانا لكم * رب ذكرى قربت من نزحا واذكروا صبا إذا غنى بكم * شرب الدمع وعاف القدحا قد عرفت الحزن مذ فارقتكم * فكأني ما عرفت الفرحا ومن مكتب المفيد خرجت فكرة إرسال وفد وطني يقابل المفوض السامي الجديد ويبسط له المطالب الوطنية في الحرية والاستقلال، على ما بدا من حسن نوياه في تصريحاته. وتألف الوفد خليطا من المحامين والأطباء والتجار والشبان. وذهب وقابل الجنرال ساراي في بيروت فلقي منه ترحيبا، ولكنه لم يناقش في المطالب، بل قال لهم قولا جديدا لم يألفه الناس من قبل: اذهبوا وألفوا أحزابا سياسية لها برامج محددة وعلى أسس هذه البرامج يناقش كل مطلب.