كي يثيروا بذلك شعور سائر القوميات المسلمة ضده (1).
هذا التوجه الوحدوي في التعامل مع قوميات العالم الاسلامي يملك دلالات كبرى على امكانات الفكر الاسلامي في أن يمارس تأثيرا إيجابيا وتوحيديا إذا استطاع أن يفلت من فخاخ التوظيف السياسي للأحزاب والعصبيات وشباك السلاطين والملوك والحكومات والدول. ولعل علاقة جمال الدين بالسلطان عبد الحميد تعبر عن المأزق الكامن بين الفكر والسلطة وعن عمق المعاناة عند ما يطمح المفكر أن يكون مرشدا للسياسي لا خادما له. انتهى بحث الدكتور كوثراني.
ونعود بعد هذا إلى التساؤل عن سبب سكوت العرب عن الحكم العثماني:
لماذا سكت العرب؟
إن سكوت العرب على الحكم العثماني طيلة أربعة قرون هو موضع تساؤلات عديدة طرحها الباحثون في مختلف المناسبات، وفي هذا الموضوع نقول:
لماذا سكت العرب طوال أربعة قرون على الحكم التركي الذي تستر باسم العثمانية ليبعد عن نفسه تهمة العنصرية؟.
لما ذا سكت العرب هذا السكوت الطويل ولم يتكلموا إلا قبيل زوال الدولة العثمانية، فتهامسوا أولا، ثم بدأت الأصوات ترتفع قليلا قليلا حتى تحولت إلى الجهر، جهرا لا باللسان بل بالسنان، جهرا يتلظى بنيران البنادق ولهيب المدافع، وأين هذا الجهر المدوي من ذاك الصمت المطبق؟ وكل ما قيل من تعليل ذلك هو إما اتهام للعرب بأنهم استكانوا للأجنبي الفاتح لمجرد كونه مسلما مشاركا لهم في الدين. وإما دفاع هو في حقيقته إقرار لهذا الاتهام.
ونحن نحاول في هذه الكلمات أن نرى أين هي الحقيقة. ولا نزعم أننا جئنا بالقول الفصل، بل نزعم أننا من بعض العرب الذين تجري على أجدادهم هذه الأحكام، وأننا من خلال سير هؤلاء الأجداد رأينا بصيصا من الحقيقة علينا أن نكشف عنه، في السنة 1498 واجهت البلاد العربية خطرا فادحا هو سيطرة الأسطول البرتغالي على المياه العربية وفرضه حصارا على مدخلي البحر الأحمر والخليج، فقال مؤرخ عربي يصف ذلك: وصاروا يقطعون الطريق على المسلمين أسرا ونهبا. وقال مؤرخ آخر: البرتغال... ظهروا في البحر وأوسعوه نهبا وصاروا يأخذون كل سفينة غصبا.
وفي السنة 1500 أحرق البرتغاليون عشر سفن مصرية في الموانئ الهندية. وفي السنة 1502 هاجموا عدن ونهبوا وأحرقوا سفنا عربية في مينائها، وفي السنة التالية وصلوا إلى مدخل البحر الأحمر، ثم بعد سنتين تغلغلوا حتى ميناء جدة. وفي السنة 1506 أحكموا السيطرة على باب المندب ومدخل البحر الأحمر، ثم التفتوا في السنة التالية إلى مداخل الخليج.
وبعد ذلك قاد ألبوكرك قائد الأسطول البرتغالي، حملة إرهاب وعنف وحرق وتخريب على السواحل العربية الجنوبية الشرقية، وأحرق مسقط وشرد سكانها. ثم احتل البرتغاليون ما اختلوه من البلاد.
وإذا كانت الأمور العربية على هذه الحال المفجعة في المشرق، فإنما كانت أسوأ منها في المغرب، إذ تمكنت إيزابيلا ملكة قشطالة من احتلال غرناطة السنة 1492 فأنهت آخر حكم عربي في الأندلس. ثم كان حفيدها شارل ملك إسبانيا يهدد العرب في شمال أفريقيا ويعمل على الحلول محلهم في مياه البحر المتوسط وأصبح في إمكانه أن يهددهم من الشمال وقت كان يضربهم البرتغاليون من الجنوب.
وأخذت المصائب تتوالى فاحتلت قوات أراغون: وهران السنة 1510، وبوجيه السنة 1512، وأجبر زعماء الجزائر على توقيع معاهدة واعترفوا بسيادة أراغون. وكان أسطول أراغون احتل تونس وطرابلس أوائل 1510، واحتل البرتغاليون طنجة. وهدد فرسان القديس يوحنا من رودس وطرابلس ومالطة السفن العربية بمثل ما يهددها به البرتغاليون في المحيط الهندي.
وقد كان ألبوكرك صريحا حين قاد في شباط 1515 أسطولا في اتجاه السواحل العربية وأعلم ملك البرتغال بان هدفه الرئيسي هو الاستيلاء على عدن وجعل مصوع ميناء حربيا ومركزا للأسطول البرتغالي في البحر الأحمر ليتمكن من القضاء على الترك وتخريب مكة.
وفي 26 آب السنة 1516، كان السلطان سليم العثماني يدخل حلب، ثم في التاسع من تشرين الأول يدخل دمشق. ثم يتتابع احتلال العثمانيين بعد ذلك للبلاد العربية بلدا بعد بلد. غير أن العثمانيين لم يستطيعوا الاحتفاظ بأكثر أجزاء الجزيرة، فسيطروا على مكة وجدة، وقامت في وجههم ثورات في اليمن، وكانت سلطتهم اسمية في حضر موت ونجد.
أما في أفريقيا الشمالية فخضعت لهم ليبيا وتونس والجزائر وفشلوا في الاستيلاء على مراكش.
لقد رأينا فيما تقدم أن احتلال السلطان سليم لحلب جاء بعد إعلان البوكرك بأنه عازم على تخريب مكة، وبعد أن تساقطت البلاد العربية في المشرق والمغرب بيد البرتغاليين والإسبان، ولم يكن هؤلاء الفاتحون يكتمون أن حربهم هي حرب صليبية، لذلك لم يكن غريبا أن لا ينظر العرب للعثمانيين نظرة عدائية بحتة.
ومع أن السلطان سليم ومن كان قبله ومن جاء بعده لم يتعرضوا للبرتغاليين ولا دافعوهم عن البلاد العربية، ولم يفعلوا قبل ذلك شيئا لحماية مسلمي الأندلس فقد سلم العرب لهم.
ثم إنه لم يكن هناك حكم تركي مباشر، بل إن البلاد العربية كانت تتمتع بما يمكن أن نسميه بالحكم الذاتي، ولكن لا بمستوى هذا العصر، بل بمستوى ذلك العصر. ومن هنا كان حكام البلاد الحقيقيون هم أهلها، فقد أبقت الدولة في سورية ولبنان على سبع عشرة أسرة حاكمة إقطاعية. وكذلك الحال في العراق، اعترفت الدولة بشيوخ العشائر حكاما على عشائرهم.
أما في ليبيا وتونس والجزائر فلم يكن هناك حكم تركي بالمعنى الصحيح، بل لقد تقلص هذا الحكم في وقت مبكر جدا، وكانت هذه البلاد تتمتع بما هو أوسع من الاستقلال الذاتي. وأما في الحجاز فقد كان الحكم الحقيقي بيد شريف مكة، وأما اليمن فقد كان هو الثائر أبدا، وكان يعيش بين حالين، استقلال تام أو ثورة عارمة.