حزب الشعب ثم الثورة لقد حقق الجنرال غورو حلمه فدخل دمشق فاتحا بعد معركة ميسلون 24 تموز 1920، وقضى على الاستقلال فيها وتشرد الوطنيون في كل مكان، وحكم الفرنسيون سوريا بالحديد والنار وقسموها إلى دويلات: دولة دمشق، ودولة حلب، ودولة جبل الدروز، ودولة العلويين، ولواء الاسكندرون. وخفت الصوت الوطني عند تشتت قادته وهمدت الحركة.
ولاعطاء فكرة واضحة عما كان عليه الحال من الهوان والهمود، وللتدليل على ما كان للرجال الذين تالف منهم حزب الشعب بعد ذلك من فضل في تحويل الأمر من هوان وهمود إلى عنفوان وثورة، نقول إن دخول الجنرال غورو إلى دمشق لم يكن دخولا هينا، بل كان نقطة سوداء، إن لم نقل صفحة سوداء في تاريخ البلاد في تلك الحقبة.
لم تكن دماء البطل يوسف العظيمة ودماء رفاقه شهداء ميسلون قد جفت بعد، حين استطاع عملاء الاستعمار أن يحملوا جماهير دمشق على أن تخرج بقضها وقضيضها وعراضاتها وأهازيجها إلى مدخل دمشق في المنشية لاستقبال فاتح دمشق الجنرال غورو.
هذه الجماهير نفسها كانت قد خرجت قبل بضعة عشر يوما بقضها وقضيضها وعراضاتها وأهازيجها لتودع الذاهبين لقتال جيش الجنرال غورو الزاحف لفتح دمشق، والكثير منها كان من بين الذين ذهبوا للقتال وشاركوا فيه.
ونزل الجنرال من سيارته التي أقلته من بيروت إلى باب دمشق، وصعد المركبة المجرورة بالخيل ليدخل دمشق متأنيا، مستمتعا بهذا الاستقبال الشعبي الباهر أطول وقت.
وهنا تقدم أبو شكري الطباع ورفاق له ففكوا حصاني المركبة وربطوا أنفسهم مكانهما وجروا مركبة الجنرال غورو، فدخل فاتح دمشق إليها مجرورة عربته بأبناء دمشق...
ولم تنكر الجماهير الحاشدة هذا، بل ظلت أهازيجها مدوية، وهتافاتها متعالية، وربما كان المنظر قد زاد في دويها وتعاليها...
وقد كان أبو شكري الطباع بعد ذلك يعتذر عن فعلته بان قريبا له كان محكوما من الفرنسيين بالاعدام، وأنه رجا بما فعل أن يناله عفو من الجنرال.
على أن دمشق الحقيقية لم تكن هي التي تمشي هذه المشية لاستقبال غورو، ولا كان أبو شكري الطباع ورفاقه هم الذين يمثلونها، بل إن دمشق الحقيقية كانت مكبوتة وراء جدران منازلها الضاوية، وفي حنايا أزقتها الخاوية، هي التي كان يمثلها شاعرها الشاب أديب التقي (1) فيهتف بشعره قائلا:
أأهل دمشق كيف سالمتم العدى * وكيف رضيتم بالمذلة والأسر ونمتم على شوك الهوان وتلكم * ضحاياكم في ميسلون قرى النسر بلادكم اجتيحت وتلك رجالكم * موزعة الأشلاء في مهمه قفر أتغفون والأقذاء ملء جفونكم * ولم تثاروا بالهالكين بلا وزر ألا هل دريتم أنكم إذ خرجتم * تلاقون غورو قد صبأتم إلى الكفر ومن عجب أن تخرجوا للقائه * وتلكم دماكم في الربى لم تزل تجري ثم بدأ فريق من القياديين النازحين يتسللون إلى دمشق، ولكن ظلوا فيها مشتتين متفردين، قد يلتقون ولكن بتحفظ وقد يتكلمون ولكن بتهامس حتى كان شهر نيسان من السنة 1922 فإذا بالدكتور عبد الرحمن الشهبندر يتلقى لاعتباره من خريجي الجامعة الأميركية في بيروت رسالة من رئيس الجامعة وفيها عزم المستر كراين على زيارة دمشق. والمستر كراين هو الذي كان سنة 1919 رئيسا للجنة الاستفتاء التي قدمت سوريا ولبنان لاستفتاء أهلهما حول ما يريدون في شان الاستقلال والانتداب وما إلى ذلك وبدا المستر كراين يومذاك. بمظهر الصديق للاستقلاليين العرب وترك في نفوسهم أثرا طيبا.
ووصل كراين إلى دمشق، وفي 2 نيسان 1922 أي بعد 21 شهرا. من معركة ميسلون وزوال الاستقلال العربي السوري، وفي جو من الاستسلام الوطني الكامل التقى الشهبندر المستر كراين في فندقه في دمشق، فطلب إليه كراين أن يجمعه بأرباب الرأي في البلاد، فلبى رغبته، وعقدت اجتماعات في المنازل الدمشقية، كان رجالها يشكون من الاستعمار مر الشكوى، ويخطب الخطباء متحمسين حتى كان يوم سفر المستر كراين، فاحتشد لوداعه جمهور يهتف للاستقلال. وخطب الشهبندر وغيره، وما أن انطلقت السيارة بالمستر كراين ومضت حتى انقلب الأمر إلى مظاهرة كانت الأولى من نوعها بعد ذاك الكبت الطويل، ومشت الجموع في الشوارع هاتفة هازجة متحمسة.
وانتهى الأمر عند هذا الحد.
كانت المظاهرة مفتاح النضال الوطني الذي انفتح بابه على الفرنسيين في بلاد الشام كلها فاقض مضاجعهم طيلة احتلالهم لهذه البلاد.
ومؤرخ الأحداث العربية المعاصرة يجب أن يقف طويلا أمام هذا اليوم الدمشقي الأصيل، وأن يتحدث كثيرا عن رجاله، لأنه يوم كان له ما بعده، كما كان يقول الأقدمون.
إذا كان أمر المظاهرة الحماسية قد انتهى عند حد تفرق جمهورها وانصرافه إلى المنازل والدور، وإذا كان لم يبق له من مفعول إلا الذكرى الجميلة العذبة في أذهان المتظاهرين، فإنه لم يكن كذلك عند الجنرال غورو، فقد محت هذه الانتفاضة اللاهبة من ذاكرته ذلك الاستقبال المصنوع عند باب دمشق، ولم يعد في ذاكرته إلا اللهب المتوهج من يوم دمشق الحماسي، وأيقن أن دمشق ليست هي التي بدت له حول المنشية، ولا رجالها هم الذين جروا عربته بأجسادهم. بل إن دمشق هي التي بدت له عند روابي ميسلون، وإن رجالها هم الذين تساقطوا برصاص جنوده على قمم تلك الروابي، وفي أجزاعها وسفوحها، وإن بقايا السيوف إن كانوا قد قبعوا إلى حين، فإنهم قد وثبوا في هذا الحين.
لذلك حزم أمره وتذكر أنه القائد العسكري الصارم الذي لا يقعقع له بالشنان كما كان يعبر الأسلاف، ففي السابع من نيسان ألقت السلطات الفرنسية تنفيذا لأوامره القبض على كل من الدكتور عبد الرحمن شهبندر وسعيد حيدر وحسن الحكيم، وزجتهم في سجن القلعة مع المجرمين العاديين.