الحربي، بل قروا العمل معهم جنبا إلى جنب في الدفاع عن الأقطار العربية، ولكنهم كما يقول أحد الباحثين: كانوا في الوقت نفسه يريدون تجميع قواهم العرب وتوحيد كلمتهم استعدادا للاحتمالات التي قد تتمخض عنها الحرب.
على أنه بعد أن بطش جمال باشا بطشته الكبرى بزعماء العرب وشنق منهم من شنق تحول الأمر ووقعت الواقعة بين الأمتين. ولم يستطع جمال باشا كشف سر العربية الفتاة بالرغم من كل ما جرى من تعذيب، وإن كان قد أعدم فريقا من أعضائها مع من أعدم دون أن تظهر حقيقة الجمعية، حتى أن بعض أعضائها برئوا بعد الاعتقال، ولو علم أمر انتمائهم إليها لكان مصيرهم الاعدام.
وكان ممن انتمى إلى العربية الفتاة فيصل بن الحسين، لذلك كان جل اعتماده بعد دخول دمشق في نهاية الحرب العالمية الأولى على أعضائها الذين ظهروا باسم حزب الاستقلال ليساهموا بالأعمال العلنية في الحكم الجديد.
ونحن نعلم أن سعيد حيدر كان عضوا بارزا في حزب الاستقلال وعاملا نشطا في تلك الفترة، ومن ذوي الرأي المسموع.
فترة الاستقلال أقبل قادة العرب من كل مكان إلى دمشق بعد الجلاء التركي، فبعضهم جاء مع فيصل كالضباط العراقيين، والبعض الآخر توافد إليها لأنها أصبحت مقر العمل العربي ومطمح آمال العرب وقاعدة أول بقعة مستقلة في بلاد الشام وغير بلاد الشام بعد الحكم غير العربي الطويل.
فكان فيها رجال العراق ورجال لبنان ورجال الساحل ورجال فلسطين، كما كان فيها بعض من نزح إلى مصر من السوريين، والتقى الجميع بآمال ضخمة وأماني بعيدة يحسبون أن ساعة الدولة العربية الكبرى قد دنت وأنهم مؤسسوها وباعثوا رفاتها.
كيف لا وجيشهم العربي الزاحف من قلب الحجاز هو المنتصر حليف المنتصرين، وملء حقائبهم وعودا مؤكدة ومواثيق وثيقة.
كان العرب يعيشون تلك الأيام التي بدأت عام 1918 ثم انتهت يوم الرابع والعشرين من تموز 1920 أزهى أيامهم وأعذب أحلامهم. وكانوا في غمرة هذا الفرح لا ينظرون إلى البعيد ولا يحسبون حسابا للغدر والختل.
ثم بدأت الحقائق تتجلى قليلا قليلا، فالحاكم العربي الذي ذهب إلى بيروت ورفع علمه على صروحها عاد مطرودا من الفرنسيين، وأنزل العلم ذليلا!.
والحكام الوطنيون الذين عينوا أنفسهم في مناطقهم الساحلية معلنين الاستقلال لم يلبثوا أياما بل ولا ساعات، بل دحرجوا عن كراسيهم.
وتقلص حجم الرقعة المستقلة حتى انحصر فيما عرف باسم المنطقة الشرقية، وهي لا تعدو دمشق وحمص وحماه وحلب وما يتبعها وينضوي إليها!...
ولكننا إذا نظرنا إلى العرب يومذاك نراهم في واقع هو أفضل ألف مرة مما صار إليه واقعهم المعنوي بعد ذلك.
كان الحديث يومذاك عن العرب وعن القضية العربية، والتوق كله إلى الوحدة الشاملة، ولم يكن للإقليمية مكان!.
فهذه بقعة صغيرة من بلاد الشام أميرها ثم ملكها حجازي (1) ورئيس برلمانها لبناني متمصر (2) وقائد جيشها عراقي (3) ووزير داخليتها لبناني (4) ووزير خارجيتها فلسطيني (5) وحكام مناطقها وضباط جيشها مزيج من كل أرض عربية، لا يدور بخلد أحد أن يسأل أحدا عن بلده أو أن يجد في ذلك موضعا لاستغراب ومكانا لتساؤل! أليس الجميع عربا؟ أليسوا كلهم رجال قضية واحدة، فهم جميعا في أرضهم وجزء من وطنهم.
ثم هذا الترفع عن الطائفيات وعدم النظر إلى دين الشخص ومذهبه.
فهذه أول حكومة عربية تقوم في البلد الاسلامي العريق دمشق وتشمل.
سيادتها الأرض السورية الداخلية التي لا يبلغ فيها المسيحيون 1 من 12 فتتكون من حاكم عسكري مسلم دمشقي هو رضا الركابي ورئيس للشورى الحربية مسلم بغدادي هو ياسين الهاشمي، ورئيس للعدلية مسيحي لبناني من دير القمر هو إسكندر عمون، ورئيس للمالية مسيحي لبناني من الشويفات هو سعيد شقير، ورئيس للأمن العام مسيحي من طرابلس هو جبرائيل حداد، ورئيس للخارجية مسيحي دمشقي هو توفيق شامية، ورئيس للصحة مسيحي لبناني من مواليد عبيه هو موصلي باشا.
خمس رئاسات أو بالأحرى خمس وزارات (6) من سبع يشغلها مسيحيون، أربعة منهم من لبنان وواحد من دمشق.
ومحكمة الاستئناف المدنية التي تطبق مجلة الأحكام العدلية المستمدة من الشريعة الاسلامية، محكمة الاستئناف هذه تتألف من ثلاثة قضاة كلهم مسيحيون بينهم اثنان من لبنان هم: نجيب الأميوني من حاصبيا رئيسا وأسعد أبو شعر من دمشق عضوا وفائز الخوري من الكفير لبنان عضوا.
كان سعيد حيدر في صميم هذا المعترك الاستقلالي العربي، ومن أكثر العاملين فيه نشاطا وحماسة، لذلك كان موضع غضب الفرنسيين ونقمتهم بعد دخولهم دمشق فحكموا عليه بالاعدام فاضطر للتواري زمنا، ثم عاد مع العائدين كما قدمنا في أول البحث.
عاد ولكنه لم يعد ساكنا بل عاد حاملا معه ثورته، مخططا للنضال المستقبلي كما سنرى فيما يلي من القول.
وبدأ كفاحه في جريدة المفيد ثم في حزب الشعب، ثم في إشعال الثورة السورية، وهذا ما نستعرضه بايجاز في البحث الآتي: