اقدام العقول وغايتها الغرق في لجة ذلك الوصول.
فان قلت: لم لم يقل عليه السلام: من عرف ربه عرف نفسه، ومعلوم ان ترتيب هذه المتصلة على هذا الوجه أولى فان استلزام مقدمها لتاليها يكون أقوى من استلزامه له ان لو كانت (1) على الترتيب المذكور الان لأنه استدلال ببرهان لم، ولا شك ان برهان لم أقوى من برهان ان، لما ان العلم بالعلة المعينة مستلزم للعلم بالمعلول المعين واما العلم بالمعلول المعين فلا يدل الا على العلة المطلقة، اما المعينة فلا، لجواز تعليل المعلول النوعي بعلتين فلا يتعين الشخصي (2) لاحديهما؟
قلت: لا شك فيما ذكرته من أن برهان لم أقوى والاستدلال به أولى الا انا نقول: ان هذه الكلمة خرجت منه عليه السلام مخرج التأديب والحث على جماع مكارم - الأخلاق واقتناء الفضائل، وذلك أن الانسان إذا عرف نفسه بكثرة عيوبها ونقصانها وحاجتها إلى التكميل كان ذلك داعيا له على اصلاح قوتيه العملية والنظرية ثم إنه نبه على وجوب معرفة النفس بعد ذكرها بأنها أقرب قريب إلى الانسان بحيث يحتاج في معرفتها إلى طلب زائد هي وسيلة إلى الغاية المطلوبة للكل الواجبة على الاطلاق وهي معرفة - الصانع وهذا شأن المؤدب الحاذق ان يعين مطلوبه أولا لمن (3) يؤدبه عليه ثم ينبهه على حسنه ووجه وجوبه عليه وليس مقصوده الأول ههنا هو التنبيه على وجوب معرفة الله ولو أنه قدم معرفة الله تعالى لفات الغرض المذكور من الكلمة، ولما بقي ذلك الذوق لها، ولما كان ذلك حثا للانسان على الاطلاع على عيب نفسه، وأنت بعد مخض هذه الكلمة في سقاء ذهنك وارسال الرائد الفكري في جميع مفهوماتها ستجمع لك زبدتها، والله ولى هدايتنا، وبه حولنا وقوتنا، اللهم أهلنا لاستشراق نفحات عزتك، وملكنا ملكة الاتصال بأرباب حضرتك، وانشر لنا جناح الفرح (4) بمطالعة كبريائك، ولمحات جمالك وبهائك، انك أنت الوهاب.