غير أنهما يختلفان في موقفهما العلمي، من تلك الظواهر موضوعة الدرس ومرد اختلافهما إلى سببين: فان الباحث التاريخي، الذي يريد أن يفسر المجتمع البشري، ونشوءه وتطوره ومراحله، في ضوء الظواهر التاريخية والاجتماعية، لا يستطيع أن يتبين هذه الظواهر بصورة مباشرة، كما يتبين العالم الفيزيائي ظواهر الطبيعة، التي يدرسها في مختبره الخاص، وإنما هو مضطر إلى تكوين فكرة عنها، ترتكز على النقل والرواية، وشتى المخلوقات العمرانية وغيرها من الآثار، ذات الدلالة الناقصة. فالفرق إذن كبير جدا، بين الظواهر الطبيعية، التي يرتكز عليها البحث العلمي، في العلوم الطبيعة، بصفتها المواد الرئيسية له، وبين الظواهر التاريخية، التي يقوم على أساسها البحث التاريخي، بصفتها موادا أولية له. فالمواد في العلوم الطبيعية، ظواهر معاصرة للعالم الطبيعي، موجودة في مختبره، يستطيع مشاهدتها، وتسليط الضوء العلمي عليها، وبالتالي وضع تفسير كامل لها.. وعلى العكس من ذلك تماما، المواد التي يملكها الباحث التاريخي. فإنه لدى محاولة استكشاف العوامل الأساسية في المجتمع، وكيفية نشوئه وتطوره، مضطر إلى الاعتماد في تكوين مواد البحث، وفي الاستنتاج والتفسير، على كثر من الظواهر التاريخية للمجتمع، التي لا يستطيع الباحث مشاهدتها، إلا من خلال النقل والرواية، أو من خلال بعض الآثار التاريخية الباقية ونذكر على سبيل المثال أنجلز، بوصفه باحثا تاريخيا، حاول في كتابه (أصل العائلة) تفسير الظواهر الاجتماعية علميا، فاضطر إلى الاعتماد - بصورة رئيسية - في استنتاجاته، على روايات ومزاعم مؤرخ أو رجالة معين، هو مورغان.
وهكذا يختلف البحث التاريخي، عن البحث الطبيعي من ناحية المادة (الظواهر)، التي يملكها الباحث، ويقيم عليها تفسيره واستنتاجه. ولا يقف اختلافهما عند هذا الحد. فإنهما كما يختلفان من ناحية المادة، كذلك يوجد سبب آخر لاختلافهما من ناحية الدليل الذي يمكن للباحث استخدامه، في سبيل تدعيم هذا التفسير العلمي أو ذاك.