ولا نريد هنا أن نقول شيئا عن هذه الإجارة ومقتضياتها من الناحية الفقهية، ولا عن أقوال الفقهاء الذين يشكون فيها أو في مقتضياتها.. فإننا سوف ندرس الحكم الشرعي لهذه الإجارة ومقتضياتها بكل تفصيل في بحث مقبل ( 1)، ونستعرض جميع الأدلة التي يمكن الاستناد إليها في الموضوع إيجابيا أو سلبيا.. وإنما نريد هنا أن ندرس فقط الاستدلال على تلك الإجارة ومقتضياتها بدليل التقرير، لنبرز شكلا من تجريد السلوك عن شوطه وظروفه. فإن هؤلاء الذين يستدلون بدليل التقرير على صحة تلك الإجارة ومقتضياتها لم يعيشوا عصر التشريع، ليتأكدوا من تداول هذا النوع من الإجارة في ذلك العصر، وإنما شاهدوا تداولها في واقعهم المعاش، وأدى رسوخها في النظام الاجتماعي السائد إلى الايمان بأنها ظاهرة مطلقة، ممتدة تاريخيا إلى عصر التشريع. وهذا هو الذي نعنيه بتجريد السلوك من ظروفه وشروطه دون مبرر موضوعي، وإلا فهل نملك دليلا حقا على أن هذا اللون من الإجارة كان موجودا وشائعا في عصر التشريع الإسلامي؟! وهل يعلم هؤلاء الذين يؤكدون على وجوده في ذلك العصر: أن هذه الإجارة هي المظهر القانوني للإنتاج الرأسمالي، الذي لم يوجد تاريخيا على نطاق واسع - خصوصا في ميادين الصناعة - إلا متأخرا؟!
وليس معنى هذا الكلام: الجزم بنفي وجود الإنتاج الرأسمالي للمواد المعدنية في عصر التشريع، أي العمل بأجرة في استخراجها، ولا تقديم دليل على هذا النفي بل مجرد الشك في ذلك، وأنه كيف تتأصل ظاهرة معينة وتبدو طبيعية حتى توحي باليقين بعمقها وقدمها، لمجرد أنها راسخة في الواقع المعاش، مع عدم توفر أدلة منطقية كاملة على قدمها تاريخيا، وانفصالها عن ظروف مستجدة.
هذا هو الشكل الأول من عملية التجريد - تجريد السلوك المعاش عن ظروفه الواقعية - وتمديده تاريخيا إلى عصر التشريع.
وأما الشكل الآخر من عملية التجريد في دليل التقرير فهو ما يتفق عندما ندرس