والسبب في ذلك واضح، لأن أحكام الشريعة تؤخذ من الكتاب والسنة، أي من النص التشريعي، ونحن بطبيعة الحال نعتمد في صحة كل نص على نقل أحد الرواة والمحدثين - باستثناء النصوص القرآنية ومجموعة قليلة من نصوص السنة التي ثبتت بالتواتر واليقين - ومهما حاولنا أن ندقق في الراوي ووثاقته وأمانة الرواة إلا تاريخيا، لا بشكل مباشر، وما دام الراوي الأمين قد يخطئ ويقدم الينا النص محرفا، خصوصا في الحالات التي لا يصل الينا النص فيها إلا بعد أن يطوف بعدة رواة، ينقله كل واحد منهم إلى الآخر، حتى يصل الينا في نهاية الشوط. وحتى لو تأكدنا أحيانا من صحة النص، وصدوره من النبي أو الإمام، فإننا لن نفهمه إلا كما نعيشه الآن، ولن نستطيع استيعاب جوه وشروطه، واستبطان بيئته التي كان من الممكن أن تلقى عليه ضوءا. ولدى عرض النص على سائر النصوص التشريعية للتوفيق بينه وبينها، قد نخطئ أيضا في طريقة التوفيق، فنقدم هذا النص على ذاك، مع أن الآخر أصح في الواقع، بل قد يكون للنص استثناء في نص آخر ولم يصل الينا الاستثناء، أو لم نلتفت اليه خلال ممارستنا للنصوص، فنأخذ بالنص الأول مغفلين استثناءه الذي يفسره ويخصصه.
فالاجتهاد إذن عملية معقدة، تواجه الشكوك من كل جانب ومهما كانت نتيجته راجحة في رأي المجتهد، فهو لا يجزم بصحتها في الواقع، ما دام يحمل خطأه في استنتاجها، إما لعدم صحة النص في الواقع وان بدا له صحيحا، أو لخطأ في فهمه، أو في طريقة التوفيق بينه وبين سائر النصوص، أو لعدم استيعابه نصوصا أخرى ذات دلالة في الموضوع ذهل عنها الممارس أو عاثت بها القرون.
وهذا لا عيني طبيعة الحال إلغاء عملية الاجتهاد أو عدم جوازها، فإن الإسلام - بالرغم من الشكوك التي تكتنف هذه العملية - قد سمح بها، وحدد للمجتهد المدى الذي يجوز له أن يعتمد فيه على الظن، ضمن قواعد تشرح عادة في علم أصول الفقه، وليس على المجتهد إثم إذا اعتمد ظنه في الحدود المسموح بها، سواء أخطأ أو أصاب.