ففكرة العدالة هي الحد الفاصل بين المذهب والعلم، والعلامة الفارقة التي تمييز بها الأفكار المذهبية عن النظريات العلمية، لأن فكرة العدالة نفسها ليست علمية، ولا أمرا حسيا قابلا للقياس والملاحظة، أو خاضعا للتجربة بالوسائل العلمية، وإنما العدالة تقدير وتقويم خلقي. فأنت حين تريد أن تعرف مدى العدالة في نظام الملكية الخاصة، أو تصدر حكما على نظام الفائدة الذي تقوم على أساسه المصارف بأنه نظام عادل أو ظالم.. لا تلجأ إلى نفس الأساليب والمقاييس العلمية التي تستخدمها حينما تريد قياس حرارة الجو، أو درجة الغليان في مائع معين، لأن الحرارة والتبخر ظاهرتان قيم خلقية ومثل عليا، خارجة عن حدود القياس المادي.
فالعدالة إذن ليست فكرة علمية بذاتها، وهي لذلك حين تندمج بفكرة تدمغها بالطابع المذهبي وتميزها عن التفكير العلمي. فمبدأ الملكية الخاصة، أو الحرية الاقتصادية، أو إلغاء الفائدة أو تأميم وسائل الإنتاج.. كل ذلك يندرج في المذهب، لأنه يرتبط بفكرة العدالة، وأما قانون تناقص الغلة، وقانون العرض والطلب، أو القانون الحديدي للأجور.. فهي قوانين علمية، لأنها ليست بصدد تقويم تلك الظواهر الاقتصادية. فقانون تناقض الغلة لا يحكم بأن هذا التناقص عادل أو ظالم، وإنما يكشف عنه بوصفه حقيقة موضوعية ثابتة، كما أن قانون العرض والطلب لا يبرر ارتفاع الثمن بسبب قلة العرض أو زيادة الطلب على أساس مفهوم معين عن العدالة، وإنما يبرز الترابط موضوعيا بين الثمن وكمية العرض والطلب، باعتباره ظاهرة من الظواهر الحتمية للسوق الرأسمالية، وكذلك الأمر في قانون الأجور الحديدي، فهو يشرح الواقع المحتوم للعمال الذي يجعلهم دائما لا يحصلون في المجتمع الرأسمالي إلا على معيشة الكفاف، بقطع النظر ما كانت ظالة نصيب العمال في التوزيع تتفق مع العدالة أو لا. فكل القوانين العملية لا ترتكز على فكرة العدالة، وإنما ترتكز على استقراء الواقع وملاحظة مختلف ظواهره المتنوعة. وعلى العكس من ذلك القواعد المذهبية التي تجسد دائما فكرة معينة للعدالة.