إحداهما بدور بائع فيبيع حنطته بنقد معين، ويقوم في الأخرى بدور المشتري فيشتري قطنا بذلك النقد، وهذا يعني فصل البيع عن الشراء، بينما كانا مزدوجين في المقايضة. وفصل البيع عن الشراء في عمليات المبادلة القائمة على أساس النقد، فسح المجال لتأخير الشراء عن البيع. فالبائع لم يعد مضطرا لكي يبيع حنطته أن يشتري من الآخر ما ينتجه من القطن، بل يمكنه أن يبيع حنطته نظير نقد معين ويحتفظ بالنقد لنفسه، ويؤجل شراء القطن إلى وقت آخر.
وهذه الفرصة الجديدة التي وجدها البائعون بخدمتهم - فرصة تأخير الشراء عن البيع - غيرت الطابع العام للبيوع والمبادلات. فبينما كان البيع في عصر المقايضة، يستهدف منه دائما شراء سلعة من السلع التي يحتاجها البائع، أصبح للبيع في عصر النقد هدف جديد. فالبائع يتخلص من سلعته في المبادلة لا ليظفر بسلعة أخرى، بل ليحصل على مزيد من النقد بوصفه الوكيل العام عن السلع، الذي يجعل بإمكانه شراء أي سلعة شاء في كل حين.. وهكذا تحول البيع للشراء إلى البيع لامتصاص النقود. ونشأت عن ذلك ظاهرة اكتناز المال وتجميده مجسدا في تلك النقود. لأن النقد - ونعني بوجه خاص النقود المعدنية والورقية - يمتاز على سائر السلع فإن مر الزمن، وقد يتطلب الاحتفاظ بها وبجدتها إلى نفقات عديدة، ومن ناحية أخرى: قد لا يتيسر لمالك تلك السلعة المكتنزة الظفر بما يطلبه المكتنز من سلع أخرى في وقت الحاجة، فلا يكون في اكتنازها ضمان الحصول على شتى الطلبات في كل حين.
وعلى العكس من ذلك كله النقد، فإن قابل للبقاء والادخار، ولا يكلف اكتنازه شيئا من النفقات، كما أنه بوصفه الوكيل العام عن السلع يضمن للمكتنز قدرته على شراء أي سلعة شاء، في كل وقت.
وهكذا توفرت دواعي الاكتناز لدى المجتمعات التي بدأت المبادلة فيها تقوم على أساس النقود، وعلى أساس النقود الذهبية والفضية بوجه خاص