الأول من الشهر، كأنها في (مد) من نور القمر ما دام هذا النور إلى زيادة، ثم يراجعها (الجزر) في النصف الثاني حتى كأن للدم إضاءة وظلاما، وإذا ثبت أن للقمر أثرا في الأمراض العصبية وفي مد الدم وجزرة (1) فهذا من أعجب الحكمة في أن يكون الصيام شهرا قمريا دون غيره. وفي ترائي الهلال ووجوب الصوم لرؤيته معنى دقيق آخر، وهو - مع إثبات رؤية الهلال وإعلانها - إثبات الإرادة وإعلانها، كأنما انبعث أول الشعاع السماوي في التنبه الإنساني العام لفروض الرحمة والإنسانية والبر.
وهنا حكمة كبيرة من حكم الصوم، وهو عمله في تربية الإرادة وتقويتها بهذا الأسلوب العملي الذي يدرب الصائم على أن يمتنع باختياره من شهواته ولذة حيوانيته، ويبقيه مصرا على الامتناع، مهيئا له بعزيمته، صابرا عليه بأخلاق الصبر، مزاولا في كل ذلك أفضل طريقة نفسية لاكتساب الفكرة الثابتة ترسخ لا تتغير ولا تتحول، ولا تعدو عليها عوادي الغريزة.
وإدراك هذه القوة من الإرادة العملية منزلة اجتماعية سامية، هي في الإنسانية فوق منزلة الذكاء والعلم، ففي هذين تعرض الفكرة مارة مرورها، ولكنها في الإرادة تعرض لتستقر وتتحقق، فانظر في أي قانون من القوانين، وفي أية أمة من الأمم، تجد ثلاثين يوما من كل سنة قد فرضت فرضا لتربية إرادة الشعب ومزاولته فكرة نفسية واحدة بخصائصها وملابساتها حتى تستقر وترسخ وتعود جزءا من عمل الإنسان، لا خيالا يمر برأسه مرا.
أليست هذه هي إتاحة الفرصة العملية التي جعلوها أساسا في تكوين الإرادة وهل تبلغ الإرادة فيما تبلغ أعلى من منزلتها حين تجعل شهوات