الأقطار الأخرى، من الأمم الأخرى، على العكس من سكان المدن، ولا سيما مكة، التي كانت تقيم علاقات تجارية بينها وبين سائر الأقطار والأمم. ولها رحلتا الشتاء والصيف، إلى البلاد التي تتاخم البلاد الأجنبية، التي لا يبعد تأثرها بها - قليلا كان ذلك أو كثيرا -.
3 - وكونهم أقوى جنانا، لما قدمناه في مطاوي كلماتنا في الفصل الأول.
4 - وأما أنهم أصفى فكرا وقريحة، فهو حيث يبتعد الانسان حينئذ عن هموم المدينة، وعن علاقاتها المعقدة والمرهقة، حيث لا يواجه في البادية إلا العيش الساذج والبسيط، والحياة على طبيعتها. ولا يتأثر فكره وعقله، بالمفاهيم والأفكار التي تفرضها تلك الحياة المثقلة بالعلاقات المنحرفة، ثم هو يجد الفرصة للتأمل والتفكير والتعرف على أسرار الطبيعة والكون، ولو في حدود عالمه الناشئ المحدود، ومداركه الناشئة أيضا.
وليكون من ثم ذا فكر مبدع خلاق، وقريحة صافية وغنية.
ولكن بشرط عدم الاستمرار في هذه الحياة طويلا، فإن الاستمرار في حياة البادية من شأنه أن يجعل الانسان يعاني من الجمود والانغلاق، ثم هو يكون لنفسه مفاهيم وأفكارا، يحولها الزمن إلى حقائق لا تقبل الجدل عنده، ويصير من الصعب عليه قبول أي رأي آخر يسير في غير اتجاه قناعاته وأفكاره، فإن تدرب الانسان على أن يسمع النقد والمخالفة في الرأي يبعده عن الاستبداد الفكري، ويجعله يبحث عن الدليل، والمبرر لكل فكرة لديه. وإلا، فإنه يصير على استعداد للتخلي عنها إلى غيرها مما يستطيع أن يدافع عنه ويستدل عليه. وهذا أمر طبيعي يعرفه الانسان بالمشاهدة، ويستدل عليه بالتقصي والتجربة.