كتابه كنوز الذهب في تاريخ حلب الذي جاء فيه وهو يتحدث عن هذه القصة: وقال القاضي شهاب الدين محمود: وأنا أذكر هذه الواقعة وأنا بحلب في الكتاب بعد 650.
إذن فان جزين كانت حافلة بحملة العلم بعد سنة 650 ه وهذا يدل على أنها كانت حافلة بهم قبل هذا التاريخ.
ونحن نعلم أن جلاء الصليبيين النهائي عن جبل عامل كان سنة 666 ه وكانوا قد جلوا قبل ذلك سنة 583 ثم عادوا. هذا باستثناء مدينة صور التي لم يجلوا عنها إلا سنة 690 ه.
ومن القدامى الذين وصلت إلينا أخبارهم من علماء العامليين الشيخ نجم الدين طومان بن أحمد المناري. والأخبار الواصلة إلينا عن هذا العالم العاملي ليست كثيرة ولكنها ذات أهمية كبرى، فالذين ذكروه قالوا أنه توفي سنة 728 وأنه رحل إلى العراق لطلب العلم وأنه من أساتذة الشيخ مكي والد الشهيد محمد بن مكي.
وبين وفاة الشيخ طومان وبين جلاء الصليبيين اثنتان وستون سنة، ولم يشر المؤرخون إلى سنة مولد طومان، ولكن مهما افترضنا قصر حياته ولعلها لم تكن قصيرة بل طويلة فإننا نستطيع أن نستنتج أن رحلة طومان إلى العراق كانت خلال الاحتلال الصليبي، وليس من المعقول أن يرحل لطلب العلم جاهلا، فلا بد أنه كان على مقدار من التحصيل مهما كان شانه، فهو يدل على أن دراسة كانت قائمة في جبل عامل خلال الاحتلال، وأن هذه الدراسة أمكنها أن تعد طلابا لمتابعة الدراسة العليا في العراق وكان طومان واحدا منهم.
ويمكن أن نضيف إلى ذلك أن الذين ترجموا للشهيد محمد بن مكي ذكروا أنه ابن الشيخ جمال الدين مكي بن الشيخ شمسا لدين محمد بن حامد. فقد وصف كل من أبيه وجده بالشيخ ولقب الأول بجمال الدين والثاني بشمس الدين وهذه الأوصاف لا تطلق إلا على أهل العلم، بينما لم يوصف أبو جده ولم يلقب مما دل على أنه لم يكن منهم.
وقد رأينا أن والد الشهيد هو تلميذ طومان الذي عاش في الاحتلال الصليبي، فيكون جد الشهيد قد درس في جبل عامل خلال الاحتلال.
وهكذا نستطيع القول بان العامليين تغلوا على محنة الاحتلال وعلى ما حملتهم إياه تلك المحنة من ضيق وتضييق، وقدروا أن يؤسسوا مدارسهم وأن يحتفظوا بوجودهم كاملا لا ينقصه الجهل المؤدي إلى الذوبان والانحلال، وأن يظلوا أمناء على رسالتهم الفكرية الأصيلة، فحرسوا اللغة العربية وصانوا علومها في ذاك البحر الفرنجي الطامي وحرسوا علوم الشريعة وحفظوها وأورثوا ذلك للأجيال التالية أمانة خالدة.
جبل عامل والعامليون بعد نشر مقالي بعنوان ابن جبير في جبل عامل انهالت علي التساؤلات الهاتفية من الأصدقاء: لماذا تعد اسم الجنوب بدلا من اسم جبل عامل جناية على هذا الاسم؟
وكنت قد قلت في ذلك المقال: المنطقة التي عرفت باسم جبل عامل، والتي جنوا على اسمها التاريخي الجميل في هذا العصر فاستبدلوا به اسم الجنوب....
وإذا كانت تساؤلات الأصدقاء هي بهذه الكثرة. فاني أحسب أن القراء الذين لم يتصلوا بي، وكان تساؤلهم بينهم وبين أنفسهم، هم عدد وافر. ولقد كان جوابي عن تساؤل المتسائلين: إن الكلام في هذا الموضوع لا تتسبع له آلة الهاتف، لذلك سأجيب على صفحات النهار. وها أنا برا بوعدي أكتب هذه الكلمة عسى مقنع أن يكون فيها للجميع:
لم يحمل هذا الجبل اسمه جبل عامل دفعة واحدة، بل لقد تدرجت هذه التسمية تدرجا حتى استقرت على ما استقرت عليه. فقد أطلق عليه أولا اسم جبال بني عاملة، ثم اختصر إلى جبال عاملة ثم زيد اختصارا إلى جبل عاملة، ثم استقر على جبل عامل.
وقد لحقته التسمية الأولى لأن قبيلة عربية يمانية هاجرت إليه فيمن هاجر من قبائل اليمن فاستقرت فيه، وكان اسم القبيلة بني عاملة.
وهذه الهجرة اليمانية إليه لم تكن هجرة فريدة، بل هي واحدة من تلك الموجات العربية التي تدفقت في التاريخ البعيد من اليمن إلى شتى بلاد العرب، فهاجر بنو قيلة إلى الحجاز واستقروا في المدينة حيث عرفوا بعد ذلك باسم الأوس والخزرج، ثم تحول اسمهم في أول الاسلام إلى الأنصار.
وهاجر الغساسنة إلى غوطة دمشق وحوران والجولان. وهاجر اللخميون إلى الحيرة في العراق حيث عرف متأخروهم باسم المناذرة.
وكنا نتساءل إلى أي تاريخ تعود هذه الهجرة، ومنذ متى حمل هذا الجبل اسم العامليين؟ ولم يكن في المصادر التاريخية التي كانت بين أيدينا ما يجيب عن هذا السؤال، إلى أن طلع علينا الدكتور أسد رستم بمقال له في مجلة العرفان يقول فيه: والإسكندر البير إذ تحدته صور وصمدت في وجهه واضطر أن يحاصرها حصارا طويلا أحب في يوم من أيام الحصار أن يروح عن النفس برحلة صيد قصيرة، فقام من ضواحي صور ممتطيا جواده واتجه شرقا متسلقا جويا وتبنين، فوجد نفسه فجأة بين قوم من العرب، هكذا يقول أريانوس أقدم من ارخ للإسكندر وأقربهم إليه زمنا انتهى كلام الدكتور أسد رستم.
ومن هم هؤلاء العرب الذين لقيهم الإسكندر في جويا وتبنين؟ من هم إن لم يكونوا بني عاملة؟
وقد كان كلام الدكتور أسد رستم هذا حافزا على تتبع هذا الأمر تتبعا متصلا، وقد استعنت في ذلك بالمؤرخ الصوري الأستاذ معن عرب الذي كان مشغولا بكتابة تاريخ مفصل لمدينة صور، فاستفدت من معاونته استفادة كبرى، وتبين أن ليس أريانوس وحده هو الذي يذكر لقاء الإسكندر لبني عاملة، بل لقد جاء ذلك في الصفحة 541 من مجلة ريفو بيبليك في بحث عن الإسكندر الكبير في سوريا وفلسطين بقلم الأب ف. م. ابل: خلال حصار الإسكندر لصور وبينما كان يسلح أسطوله ويصنع آلات القذف والهجوم إذا به يعلم أن ثلاثين من رجاله قتلهم عرب من لبنان بغتة.
كما تبين أن كنتوس كورتيوس المؤرخ الروماني الذي كتب في عهد الإمبراطور كلاوديوس تاريخ الإسكندر الكبير 41 45 ب. م في عشرة كتب قد ذكر ما يلي: حدث أن هاجم المكدونيين بعض الفلاحين العرب على جبل لبنان