وطرابلس أصابهم ما يشبه ما أصاب سكان صور، ولكننا لا نعلم ما حل بالقرى والأرياف، وإذا بابن جبير وحده دون سائر المؤرخين يترك معلومات عنها لا تقدر.
لقد كان يجهل حقيقة الحال فيما سيمر به من بلدان، أهي عامرة أم خراب؟ أبقي سكانها فيها أم نزحوا عنها؟
لذلك نرى طبيعة المفاجأة في هذا الكلام:... ضياع متصلة وعمائر منتظمة... ثم المفاجأة تلو المفاجأة:... سكانها كلهم مسلمون.
ولقد أذهل تتابع المفاجآت ابن جبير عن أن يتعرف أسماء الضياع، فلم يحاول أن يسأل عنها، فاكتفى بذلك الاجمال وهو في عقيدته أوسع التفصيل! أليس يكفي بان يخبر بان الأرياف بالرغم من الاحتلال الصليبي هي ضياع متصلة وعمائر منتظمة. ثم أليس هذا خبرا يكفي لكل تساؤل واستطلاع: سكانها كلهم مسلمون.
والحقيقة أن الأمر كما قدر ابن جبير، ولكن ليته جمع المهم إلى الأهم، ففصل لنا أسماء ما رآه من قرى ووصفها بعض الوصف.
وتتابع المفاجآت على ابن جبير، فبعد أن علم ما علم واطمأن إلى ما اطمأن إليه، وعرف ما كان يود أن يعرفه من حال تلك الضياع والعمائر، وحال أهلها المسلمين، قال أن أولئك السكان المسلمين يؤدون للفرنج نصف الغلة وجزية عن كل رأس دينارا وخمسة قراريط ولهم على ثمر الشجر ضريبة خفيفة.
هذا النص مضافا إلى النص السابق هو من أعظم ما كتب المؤرخون في تعريف حال المواطنين القرويين خلال الاحتلال الصليبي، فإنني لا أحسب أن مؤرخا عربيا عني بتتبع حياة الأرياف خلال تلك الحقبة المؤلمة. ولولا ابن جبير لجهلنا حالة كانت معرفتها ضرورية.
ويتلخص الموقف استنتاجا من نصوص الرحلة بما يلي: الزحوف الفرنجية بخيلها ورجلها نزلت المدن فأعملت السيف والنهب في بعضها، كما جرى في طرابلس وبيروت، واكتفت من مدن أخرى بجلاء أهلها وفرض الأموال الباهظة عليهم كما في صيدا وصور. وهذا التمييز تبعا للحالة التي دخل بها الصليبيون إلى تلك المدن، فالمدن التي رفضت الاستسلام وظلت تقاوم حتى دخلوها منتصرين عاملوها بالقتل والنهب، والمدن التي فاوضت على التسليم بشروط، طبقوا فيها تلك الشروط.
وأعقب جلاء العرب وقتلهم حلول الصليبيين محلهم، فعادت المدن فرنجية بسكانها ما عدا قلة قليلة ظلت في بعض المدن، وكانت هذه القلة أعجز من أن تؤثر في مصائر المدن ومجرى حياتها.
والفرنج النازلون في هذه المدن كان منهم حكامها كما كان منهم الجنود المحاربون، ثم كان من الطبيعي أن تنشأ طبقة تجارية تؤمن احتياجات المدن و تتسلم زمام الاقتصاد وتوجهه وتسيطر عليه.
ولكن إذا استطاع الفرنج أن يكونوا الحكام والجنود والتجار والصناع، فهل يستطيعون أن يكونوا الفلاحين؟ هذا ما لم يكن مستطاعا لهم لأن إعمار القرى وتسيير الزراعة فيها وتامين الأقوات منها ذلك محتاج إلى عشرات الألوف من البشر المعتادين على طبيعة الأرض العارفين بدخائل استنباتها. ولم يكن في مقدور الفرنج تامين هذا العدد من الناس القادمين معهم، لأن القادمين كانوا في الأصل جنودا للقتال، ويمكن أن يكون منهم التجار والصناع، ولكن لا يمكن أن يكون منهم الفلاحون لا كما ولا كيفا. وإذا حل القادمون محل النازحين في القرى وعادوا زراعا يلازمون الأرض، فمن يقاتل، والبلاد الاسلامية محيطة بالفرنج من كل ناحية؟ وإذا لم تزرع الأرض ولم يقم أحد عليها فكيف يستطيع الفرنج ضمان الأقوات؟
هذا الوضع الذي لا بد منه حفظ للقرويين وجودهم أولا، ثم عقائدهم وحرياتهم. وأن اضطرار الفرنج لعدم إغضاب الفلاحين، وحرصهم على أن يتمسك الفلاحون بأرضهم كانا العامل الوحيد لأن يرى ابن جبير الضياع المتصلة والعمائر المنتظمة وأن يكون جميع سكانها مسلمين.
ونستطيع القول بان مشاطرة القرويين غلاتهم، وأخذ ضريبة أخرى على الرؤوس وعلى الثمر لم يكونا شيئا عادا. ومهما كان فهما عند القرويين أفضل من التشرد والنزوح عن الأوطان.
وإذا كنا عرفنا هذا المقدار عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية، فقد كان لا بد لنا من أن نعرف شيئا عن الحياة العلمية في تلك الأرياف.
عناني في هذا البحث هو المنطقة التي عرفت اسم جبل عامل، والتي جنوا على اسمها التاريخي الجميل في هذا العصر فاستبدلوا به اسم الجنوب.
ذلك لأني أعلم بأنه كان لهذه المنطقة ماض زاهر بالعلم والأدب قبل الصليبيين، ثم كان لها الماضي نفسه بعد الصليبيين، فحسبها مثلا أن تكون قد أخرجت قبلهم شاعرا مثل عبد المحسن الصوري، وأن تكون قد أخرجت بعدهم عالما مثل الشهيد محمد بن مكي. فهل يمكن أن تكون قد أجدبت بعد أن احتلوها؟
لقد كان البحث شاقا في الوصول إلى الحقيقة، ولكن كان لا بد من الوصول إليها وهكذا كان: فقد تبين بعد طول التنقيب أنه كان هم هؤلاء العرب الحفاظ على تتابع الدرس والتدريس، وإيصال العلوم الاسلامية والآداب العربية من جيل إلى جيل لئلا تضيع الشخصية الاسلامية وتزول الروح العربية، وهو ما وفقوا فيه كل التوفيق.
لقد كانت المقاومة العسكرية عبثا، ميؤوسا من النصر فيها، إذن فلا بد من المقاومة الفكرية، وهذا ما اختطه أولئك الناس.
فمن أقدم من وصلتنا أخباره من علماء العامليين الشيخ جمال الدين إبراهيم بن الحسام أبي الغيث العاملي الذي كان حيا سنة 669 ه وهو الذي رثى أبا القاسم بن الحسين العود الأسدي المتوفي سنة 679، وأبو القاسم هذا عراقي حلي الأصل جاء إلى حلب في عهد النقيب عز الدين مرتضى فأسئ إليه إساءات همجية مبعثها التعصب الذميم مما اضطره للنزوح إلى بلدة جزين اللبنانية حيث مات سنة 679 هجرية ورثاه ابن الحسام بقصيدة مطلعها:
عرج بجزين يا مستبعد النجف ففضل من حلها يا صاح غير خفي ولكي نعلم ما كان عليه أمر جزين في ذلك الحين نضطر لنقل ما ذكره الذهبي في مختصر تاريخ الاسلام بعبارته النابية التي اعتادها هو وأمثاله من ذوي الأفكار السوداء، قال وهو يصف حادث حلب الفظيع واضطرار ابن العود للذهاب إلى جزين:... وتسحب ابن العود من حلب ثم أنه أقام بقرية جزين مأوى الرافضة فاقبلوا عليه.
ويمكن تحديد زمن انتقال ابن العود من حلب إلى جزين بما ذكره أبو ذر في