لذلك كانت تقف كثيرا وتسير قليلا. فكان ذلك كله سببا في ادراك العدو لهم وهم في النهر، وقد صوب نحوهم قذائفه، وحلقت فوقهم طائراته. فرأوا أن يتفرقوا في الباخرة والمركبين ولا يجتمعوا في مكان واحد، لئلا يرموا رمية واحدة فيستشهدوا جميعا في وقت واحد. فنزل السيد مهدي وأنجاله الثلاثة، وابن أخيه السيد عبد الكريم، وابن عمه السيد عبد الحسين في مركب اليمين، ونزل السيد مصطفى الكاشاني ومن معه في مركب اليسار، وبقي شيخ الشريعة ومن معه في الباخرة نفسها.
ولما علم زعماء القبائل الواقعة على ضفاف النهر بوجود السيد مهدي في المركب ورأوا العدو قد قارب منه، أرسلوا زورقا صغيرا ليقله إلى الساحل، وبعد التردد الطويل نزل في الزورق مع أولاده وابن عمه. وقد طرحوا في المراكب جل أسلحتهم إلا السيد عبد الحسين الحيدري فبقي على أهبته واستعداده وقد لبس لامة حرب كاملة، فلما استقر بهم الزورق، وهم بالسير، رمى اثنان من الجنود وواحد من المجاهدين بأنفسهم إلى ذلك الزورق من شدة خوفهم وفزعهم، لينجوا من الموت، فانقلب الزورق بمن فيه وبينهم السيد مهدي نفسه وبعد جهد جهيد أمكن انقاذه ومن معه والخروج بهم إلى الشاطئ قبيل المغرب.
وأما السيد عبد الحسين الحيدري وقد كان مدججا بالسلاح فغاص في الماء ولم يجدوا له اثرا.
أما السيد مهدي وأنجاله فإنهم بعد أن استراحوا قليلا من عناء هذه المشقات والأهوال، دخلوا في قلعة هناك وأقاموا فيها صلاة المغرب والعشاء، ثم رأوا أن المصلحة في مواصلة السير لأن العدو يجد السرى في طلبهم، وياسر كل من يصادفه منهم.
وكان الطريق وعرا موحلا، وكله مياه وجداول، والسيد مهدي شيخ كبير، وقد هدت الحرب قواه، وأنهكت الاحداث جسمه.
وكان معهم في ساحة الحرب السيد هاشم الشوشتري النجفي وعنده زورق جاء به مع أصحابه حين الانسحاب فمر زورقه بتلك القلعة في ذلك الوقت، فأخبره رجل من الاعراب بما جرى على السيد ومن معه في النهر، ونزوله في هذا الساحل، ودخوله في القلعة. وأنه الآن فيها مع أنجاله يريدون السير، ويمنعهم من ذلك شدة الوحل وكثرة المياه، فوصل إلى السيد واركبه وأنجاله في زورقه، ثم أخبرهم بان السيد مصطفى الكاشاني قد انفصل مركبه من الباخرة وانحدر به مع الماء إلى جهة العدو، والتقى زورقي به عن طريق الصدفة، فنقتله إلى إحدى السفن التي تقل عددا كبيرا من المجاهدين. فقال له السيد راضي ان هذه البواخر معرضة للأسر لأنها بطيئة السير، والعدو جاد في طلبها ولكن الرأي أن ناتي به معنا في هذا الزورق، فإنه أقرب إلى النجاة لخفته وسرعته فاستصوبوا هذا الرأي وذهبوا إلى السفينة ونقلوا السيد الكاشاني معهم، وجدوا في السير حتى وصلوا إلى منطقة اسمها أبو روبة قبيل الفجر، وهي تبعد عن قلعة صالح ثلاثة فراسخ.
اما شيخ الشريعة الأصفهاني فإنه بقي في الباخرة مع أصحابه إلى الساعة الرابعة غروبية من الليل، وهي بطيئة السير، كثيرة الوقوف، فخافوا أن يدركهم العدو، فانتقلوا منها إلى الساحل، وساروا على حافة النهر إلى قريب الفجر، فمروا بأحد الأهوار فأرادوا عبور النهر إلى الجانب الآخر حيث يوجد السيد مهدي وأصحابه، فصادفوا زورقا صغيرا لا يسعهم مرة واحدة، فقرروا التناوب في العبور، فاركبوا في النوبة الأولى شيخ الشريعة، والميرزا محمد رضا نجل الشيرازي ورجلين آخرين من أهل العلم. وبينما هو يسير بهم وقد قاربوا الجانب الآخر إذ نفذ فيه الماء وغرق بمن فيه. ومن المصادفات العجيبة ان يكون السيد راضي نجل السيد مهدي واقفا هناك في تلك اللحظة وقد سبق أصحابه إلى هذا المكان ليستريح فيه هنيهة، فلما رأى الحادث بعينه، وعلم أن فيه شيخ الشريعة، ألقى بنفسه في الماء واستنقذ الشيخ وأصحابه وجاء بهم إلى الساحل.، وكان الشيخ يلقبه بعد هذه الحادثة بمحيي الشريعة. وبينما هو كذلك إذ وصل إليه والده واخوته، فلما رأوه بهذه الحال ظنوا أنه سقط في الماء مرة ثانية، فأخبرهم بالخبر فشكروا الله على السلامة. وهناك اجتمع الأقطاب الثلاثة: السيد المهدي، وشيخ الشريعة، والسيد الكاشاني وجلسوا جميعا للاستراحة برهة من الزمن، ثم ركبوا زورقهم وساروا حتى طلعت الشمس وأسفر الصباح، فرأوا العدو قريبا منهم، وأنه سيدخل قلعة صالح وشيكا، فعدلوا عن مواصلة السير إلى القلعة وكانوا على مقربة منها وجعلوا سيرهم على منازل القبائل في الأهوار يتنقلون بين شيوخها ورؤسائها، من خريبط بن فالح الصيهود إلى عبد الكريم بن صيهود ومنه إلى مطلق الخليفة ثم إلى مجيد الخليفة ثم إلى أخيه حمود الخليفة ومنه إلى محمد وشواي وهما من شيوخ آل ازيرج. وما زالوا يتنقلون بين تلك المنازل والقبائل حتى وصلوا إلى آل دراج، ثم دخلوا في الجزيرة التي تفصل بينهم وبين مياح وهي قبيلة محمد الياسين وقد اجتازوها ليلا بكل مشقة، وطولها يقارب الاثني عشر فرسخا. وقد التحق بالسيد مهدي عند اجتيازه هذا الطريق كثير من المجاهدين، وبعض الضباط والجنود العثمانيين الذين لاذوا بالسيد خوفا من القتل والأسر والسلب، وبينهم قائم مقام قلعة صالح مع عائلته. وكانت سيرة السيد مهدي في هذه المسيرة ولا سيما في تلك الجزيرة أن يركب ساعة وينزل أخرى حتى يتلاحق به المجاهدون.
وهكذا قطع وصحبه ذلك الطريق الوعر حتى وصلوا إلى أول قبيلة مياح بعد طلوع الشمس بساعتين، ونزلوا وقت العصر عند كريم أحد رجال هذه القبيلة، وباتوا عنده تلك الليلة. وفي الصباح الباكر ساروا حتى وصلوا إلى محمد الياسين شيخ مياح، وتأخروا عنده ذلك النهار وتلك الليلة.
أما باقي العلماء الذين كانوا مع السيد مهدي فقد توجهوا إلى قضاء الحي ويبعد عن منطقة مياح نصف فرسخ تقريبا، وقد كان حتى ذلك الوقت تحت تصرف الحكومة العثمانية.
ولما علم محمد صالح شكارة أحد وجهاء الحي بنزول السيد مهدي وأصحابه عند محمد الياسين جاء من الحي وزار السيد، وطلب منه أن يرحل معه إلى الحي، وينزل عنده في ضيافته، فاجابه إلى ذلك بشرط أن يمهله ذلك اليوم ليستقر ويستريح ثم يأتيه في اليوم الثاني.
وفي اليوم الثاني مضوا، ومعهم الميرزا محمد رضا الشيرازي وبقوا في الحي عنده سبعة أيام.