الموكب إحدى المدن أو القبائل العربية التي تنزل على ضفاف النهر يأمر بالوقوف، وينزل هو وأصحابه، ويجمع الناس، ويحثهم على الجهاد، حتى وصلوا العمارة. وهناك أمر بالاجتماع العام في مسجدها الجامع وألقيت الخطب الحماسية من قبل بعض المجاهدين. ثم قام بنفسه ورقى المنبر وحث الناس على الجهاد، وحرضهم على التضحية والثبات، وأمرهم برص الصفوف، وتوحيد الجهود أمام العدو المتربص ورغبهم في الشهادة والسعادة، وحذرهم مغبة الفرقة والتخاذل، وشوقهم إلى ثواب الله ورضاه، فاستجابوا للنداء، والتحق به خلق كثير.
ثم سار مع جموع المجاهدين إلى منطقة العزير واجتمع هناك بالقائد العسكري جاويد باشا، وتفاوض معه حول القضايا الهامة التي تتعلق بخطط الحرب وشؤون القتال.
وكانت الحرب في ذلك الوقت قائمة في القرنة وهي القلب، فقصد بمن معه ساحة الحرب، وفي أثناء الطريق صادف اندحار الجيش العثماني وانسحابه من منطقة القتال، ورجوع بعض القبائل التي كانت تحارب معه، وسقوط القرنة بيد العدو. فأشار بعضهم عليه بالرجوع إلى العمارة لأنها مركز القوة وموطن العشائر، فوافق على ذلك وعاد إلى العمارة.
وبقي في العمارة يكاتب القبائل، ويحرض العشائر، ويبعث الرسل والدعاة إلى سائر الأطراف يأمرون الناس بالخروج، فكان الناس يفدون على العمارة زرافات ووحدانا ملبين نداء الواجب، وعازمين على لقاء العدو، ثم يتوجهون إلى الميدان.
وبعد أن أعد العدة، وهيا الجو، أبرق إلى العلماء: شيخ الشريعة والكاشاني والداماد وغيرهم وكانوا حتى هذا الوقت مقيمين في الكاظمية وطلب منهم التوجه إلى العمارة مع أصحابهم المجاهدين، كما أبرق إلى أهالي بغداد علمائها الذين تأخروا عنه بسبب انشغالهم بفيضان دجلة وانكسار بعض سدودها يحثهم على التوجه إلى سوح الجهاد.
وبعد اثني عشر يوما من قدومه العمارة ورد العلماء ومن معهم إليها.
وفي تلك الآونة عزل القائد الأول جاويد باشا وعين مكانه القائد سليمان عسكري بك.
ولما تكاملت جموع المجاهدين في العمارة، وعبئت القبائل تحرك إلى ساحة الحرب وكانت قريبة من القرنة قبل بقية العلماء، ونزل في مقر القيادة العسكرية.
ثم أبرق إلى العلماء الذين تركهم في العمارة، وطلب منهم اللحوق به فلبوا طلبه.
وقد توزع المجاهدون بقيادة العلماء على الجبهات المتعددة:
أما القلب وهو القرنة فقد رابط فيه السيد مهدي مع العلماء: شيخ الشريعة الأصفهاني، والسيد مصطفى الكاشاني، والسيد علي الداماد، والسيد عبد الرزاق الحلو وغيرهم، ومعهم جموع غفيرة من المجاهدين والقبائل المرابطة.
وأما الجناح الأيمن وهو الشعيبة فقد رابط فيه السيد محمد سعيد الحبوبي، والشيخ باقر حيدر، والسيد محسن الحكيم وغيرهم ومعهم خلق كثير من المجاهدين والقبائل المقاتلة.
وأما الجناح الأيسر وهو الحويزة فقد رابط فيه الشيخ مهدي الخالصي، ومعه ولده الكبير الشيخ محمد، والشيخ جعفر الشيخ راضي، والسيد محمد نجل السيد كاظم اليزدي، والسيد عيسى كمال الدين وغيرهم، ومعهم عدد غفير من المجاهدين.
ثم قرر ان يتقدم إلى الخطوط الأولى فركب سفينة أعدت لذلك، وسارت معه بعض القبائل كربيعة وبني لام بسفنهم، وتخلفت عنه بعض القبائل الأخرى ريثما تتهيأ للسفر ثم تلتحق به في اليوم الثاني.
ولما أدركهم الليل رست السفينة، على الساحل، وأمر أصحابه بالنزول، في ارض تسمى حريبة وهي من الأراضي الوعرة. فنزلوا فيها، وضربوا خيامهم على حافة النهر من جانب القرنة، وباتوا تلك الليلة وهم لا يعلمون موقعهم من الجيش العثماني، هل أنهم متأخرون عنه أم متقدمون عليه، وأما قبيلتا ربيعة وبني لام فإنهم قد حطوا رحالهم قبل أرض حريبة حيث أدركهم الليل هناك.
ولما أسفر الصبح خرج ولداه السيد أسد الله والسيد أحمد ليستكشفا حقيقة المكان. فبينما هما كذلك إذ لاحت لهما طلائع العدو، وظهرت لهما بواخره النهرية ومدافعه ومعداته الحربية، وقد بدأ بقوة هائلة بهجوم عنيف مفاجئ على بشكل رهيب لا قبل للجيش العثماني بصده،.
ثم اشتبك الجيشان، واحتدم القتال من قبل طلوع الشمس إلى ما بعد زوالها. وقد رست بواخر الإنكليز بإزاء سد كان قد صنعه القائد السابق جاويد باشا وقطع به نهر دجلة.
وكانت خيام السيد مهدي وأصحابه متقدمة على الجيش العثماني بنصف فرسخ بحيث كانت قريبة من العدو، وبمرأى منه ومشهد وصمد ومن معه واشتبكوا مع الإنكليز وصدوهم في 5 ربيع الثاني سنة 1333 في المعركة التي عرفت باسم معركة نهر الروطة.
وبقي السيد مهدي وباقي العلماء وجموع القبائل مرابطين في تلك الجبهات مدة أشهر وكان الإنكليز في هذه المدة يعدون العدة للهجوم ثانيا على تلك المراكز في جميع الجبهات، بقوة هائلة لا قبل لهم بها.
فركزوا هجومهم أولا على الجناح الأيمن في الشعيبة وانتصروا فيه.
ثم وجه الإنكليز قوتهم الكبيرة إلى الجناح الأيسر في الحويزة وانتصروا هناك.
ولما فرغوا من الجناحين توجهوا إلى القلب، حيث يرابط السيد مهدي، وجماعة من العلماء، وجموع من المجاهدين، ومعهم القوات العسكرية العثمانية، فهاجمهم الإنكليز وانتصروا عليهم ثم انسحب القائد العثماني العام نور الدين بك بجيشه. وأعدت للسيد مهدي وبقية العلماء وأصحابهم باخرة خاصة من بواخر الجيش، وقد ضم إليها مركبان، أحدهما في اليمين والآخر في اليسار ولم يكن فيها من الوقود ما يكفي لمثل هذه الرحلة الشاقة، وما يوصلهم إلى مأمنهم،