والجزائية وغيرها، وما لم يهتدوا إلى اسم له في العربية نقلوه بلفظه كالتلغراف ولغزتة للجريدة والفابريقة للمعمل والمدالية للوسام والقنال (1) للنهر الصغير غير الطبيعي والماكنة والماكنيست لصاحبها، والجاندرمة والشيفرة للمترجم، والبوستة والقونسل والجناستيق والاستاتيستيق للاحصاء والبانق للمصرف والترامواي والقوزموغرافيا والقرانتنه لدار العزل الصحي وغيرها مما لا يحضرنا الآن.
أن التعليم والترجمة وما سمى الصحافة نهضت في البلاد العربية في نصف القرن الأخير نهوضا سريعا، فترجمت الكتب العلمية والكتب الفنية والكتب الأدبية للتعليم والتدريس، وانتشرت الصحافة في البلدان العربية بجرائدها ومجلاتها ونشراتها الأخرى، فنقلت ألوان المعارف، ومختلف الفنون حتى الشؤون العسكرية والبلاغات الحربية، فضلا عن الأخبار السياسية والأنباء العالمية والحوادث البشرية، وكان من غريب ما حدث في هذا الأمر أن كثيرا من النقلة والمترجمين اغتروا بمعرفتهم اللغات الأعجمية كالفرنسية والإنكليزية والألمانية والإيطالية، ولم يتقنوا اللغة العربية ولا تبحروا في علم مصطلحاتها ومولدها، فترجموا الكلمات العلمية والألفاظ الفنية كيفما اتفق لهم، إلا إفرادا أقلاء كجمعهم (2)، لا يجوز لنا أن ننكر إحسانهم للنقل وفضلهم فيه، وكان واجبا على المسيئين للترجمة والنقل أن يتقنوا العربية كما أتقنوا اللغة الأعجمية، ولكنهم استهانوا بالعربية قاتلهم الله مع إعتماد شطر من أرزاقهم عليها، فجاءت ترجمتهم شوهاء ورهاء مرهاء.
وتسمح أهل الصحافة وتساهلوا في كثير مما ينشرونه، في نحو العربية وصرفها وبيانها، لأن من عادتهم السرعة، فضلا عن إسراعهم النقل والترجمة، فشاعت تراكيب ركيكة ومصطلحات فجة، ان جاز أن تسمى مصطلحات (3) وفشا الفساد في العربية، وخصوصا ما ترجم إليها مما يسمى الروايات أي القصص والحكايات، وشاع استعمال الناشئة للفاسد من التراكيب والمساء استعماله من الكلم، كقولهم كم هو جميل وكم هي جميلة؟ بدلا من ما أجمله وأجمل به وما أجملها وأجمل بها، وما كان أجملهما! والرتل الخامس بدلا من الرسل الخامس وهدف إلى الغاية بدلا من رمى إليها واستهدفها (4) وتوخاها وقصد إليها واستهتر بالقانون بدلا من استهان وتهاون به، وخالفه وخرج عنه وتعدى حدوده، مع أن الاستهتار بالقانون هو العناية به والتمسك به كل العناية والتمسك، ولا يزال هذا الفساد مستداما، حتى أصبحنا نسمع من يقول فلأن يسافر أمس وفلان يجتمع أمس هو وفلان أو يقول عصرا الرئيس يؤدي صلاة الجمعة في المسجد الفلاني مع أن صلاة الجمعة تصلي قبل العصر، باستعمال المضارع الذي لا صلة له بالماضي، للزمن الماضي البحت، كان المضارع إذا جاز استعماله لهذا المعنى في لغة أعجمية وجب أن يستعمل كذلك في العربية، وكذلك القول في عكس رغبات الشعب ويراد به أعرب عنها وصورها ومثلها وأبانها وأوضحها وحكاها مع أن العكس هو القلب والنكس ورد الأول على الآخر والجذب يضغط إلى الأرض والصرف، فهذا من التعابير الإفرنجية التي لا نسيغها ولا تسوغها العربية، أرأيت لو تعلم الناشئ أن عكس مقصده يعني أعرب عنه وصوره ثم قرأ قول جمال الدين محمد بن سالم الحموي القاضي الفيلسوف: وفي المحرم من هذه السنة 572 ه توفي القاضي كمال الدين الشهرزوري وعمره ثمانون سنة، وكان في الأيام النورية إليه قضاء القضاة والتحكم في الدولة، وكان السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب متولي الشحنكية بدمشق أيام نور الدين فكان كمال الدين يعكس مقاصده ويكسر أغراضه ويعترض عليه في أموره لتوخي كمال الدين الأحكام الشرعية فلما صار الملك الناصر إلى ما صار إليه من الملك وافتتح دمشق صار كمال الدين أحد قضاة بلاده، ولم يؤاخذه على ما صدر منه في حقه بل أكرمه وأحترمه، واستشاره وعظمه (5). فإنه يفهم من قوله يعكس مقاصده ويكسر أغراضه عكس ما أرادوا، وضد ما قصدوا، فما ذا يفعل؟
ومن ذلك قولهم، كان يحارب ضد العدو يريد أنه كان يحارب العدو فاستعملوا كلمة ضد التي ظنوها جائزة في اللغة الأعجمية، فأدت الجملة ضد معناها، لأن من معاني الضد العدو فإذا حارب عدو العدو، صار مصافيا ومسالما للعدو وموافقا وموائما لا مقاوما له. وما من أحد ينكر أن باب المجاز والاستعارة مفتوح في اللغة العربية قديما وحديثا، ولا يضيرها أن تستعير من اللغات الأخرى مجازات جليلة واستعارات جميلة، على شريطة أن لا تكون نابية منافية لطبيعتها، مباينة لأذواق أهلها، عسيرة على مداركهم. ولقد اقتبست عربية العصر جملة مجازات واستعارات من عدة لغات، وشاعت فيها لكونها سائغة، جميلة الخيال، رشيقة المعنى.
وفي أثناء ركود العربية وضمورها وتخلف العرب في العلوم والفنون والآداب، استحدثت في الغرب ألوف آلات ومئات أدوات وآلاف اختراعات، وعشرات ابتداعات، وبعثت الغربيين على وجدان أسماء لطائفة منها واشتقاق أسماء لطائفة أخرى أو تركيبها، ومن الواجب أن يذكر هنا أن اللغات الأعجمية تركيبية واللغة العربية اشتقاقية، فالمخترعات والمبتدعات والمستحدثات الغربية الأخرى يغلب على أسمائها التركيب وشبهه وهو النحت، والنحت هو أخذ اسم واحد من كلمتين بعد طرح ما يمكن طرحه منهما للتخفيف، وما وجد من النحت في العربية نزر جدالا يتعدى ما ورد في النسب وقلما يخرج عن الشعر كقولهم فلان العبشمي وفلان العبسقي نسبة إلى عبد شمس وعبد القيس، وقد جاء العبشمي في قول الشاعر:
وتضحك مني شيخة عبشمية * كان لم تري قبلي أسيرا يمانيا!
ومن الباحثين من لم يعلم أن اللغة العربية اشتقاقية فيلوي بلسانه، ويتشدق ببيانه، هازئا بمن لا يعد النحت من خصائص العربية، وإنما حمله على هزئه جهله لطبيعة اللغة العربية (6)، وكل ما ثبت عندنا من النحت عدة رموز