قلت: هذه شبهة ترد على جميع الأوامر الإنشائية التي تعلقت بالأمور العامة الكلية، ثم بعد مضي مدة يجئ وقت التقييد والتخصيص، أو بعد مضي مدة يجئ وقت العمل بها، فكما إنها ليست باعثة حين وجودها، وتصير بعد التحاق قيودها باعثة، كذلك الأمر هنا، فإن الأمر الأول المتعلق بالطبيعة إما لا يكون إلا إنشائيا، فبلحوق الأمر الثاني يكشف الجد على طبقه، فيصير باعثا.
أو يكون فعليا، ولكن بعد مضي مدة يصير المصلحة في الطبيعة المقيدة، فيصدر الأمر الثاني، فلا يلزم عدم باعثية الأمر الأول.
وحيث يكون الفرض الأول خارجا عن مفروض المسألة، وهو كون الأمرين فعليين مستقلين، ولكل واحد منهما موافقة ومخالفة، يتعين الفرض الثاني، وهو كون المصلحة بدوا في الطبيعة المطلقة، ثم صارت في المقيدة، فامر بها، فإنه حينئذ لا يلزم عدم باعثية كلا الأمرين، ولا لغويتهما.
نعم، بناء على ما ذكرناه وجها للامتناع، وأن الأمر الثاني لا يكون نفسيا تأسيسيا، فلا يختص بالموافقة والمخالفة، ولا يكون ذا عتاب وعقاب، وذا امتثال وثواب، يتوجه أيضا: أن الأمر التأسيسي النفسي - بحسب الواقع ونفس الأمر - أحد أمرين:
إما يكون الأول، فيكون الثاني إرشادا إلى القيدية.
أو يكون الثاني، فيكون الأول لغوا، أو منسوخا.
وحيث لا سبيل إلى الثاني ثبوتا، ولو أمكن لا وجه له إثباتا، يتعين فيما إذا ورد الأمران، حمل الأول على التأسيس، والثاني على الإرشاد إلى تقيد متعلق الأمر الأول، كقوله: " صل " وقوله ثانيا: " صل فيما يؤكل لحمه " فافهم واغتنم.
نعم، في المثال المزبور هو إرشاد إلى قيد في المأمور به، وفيما نحن فيه هو إرشاد إلى تضيق المرام، وأخصية الغرض.