لعدم ذلك في أكثر الأحكام، بل لوجودها في مسائل معدودة، ولا في الإجماع لوجود الاختلاف في ذلك، فعلم أن ادعاء القرائن في جميع هذه المسائل دعوى محالة، ومن ادعى القرائن في جميع ما ذكرناه كان السبر بيننا وبينه، بل كان معولا على ما يعلم ضرورة خلافه مدافعا لما يعلم من نفسه ضده ونقيضه. ومن قال عند ذلك: إني متى عدمت شيئا من القرائن حكمت بما كان يقتضيه العقل يلزمه أن يترك أكثر الأخبار وأكثر الأحكام ولا يحكم فيها بشيء ورد الشرع به، وهذا حد أحد يرغب أهل العلم عنه، ومن صار إليه لا يحسن مكالمته، لأ نه يكون معولا على ما يعلم ضرورة من الشرع خلافه.
ومما يدل أيضا على جواز العمل بهذه الأخبار التي أشرنا إليها ما ظهر بين الفرق المحقة من الاختلاف الصادر عن العمل بها، فإني وجدتها مختلفة المذاهب في الأحكام يفتي أحدهم بما لا يفتي به صاحبه في جميع أبواب الفقه من الطهارة إلى باب الديات من العبادات والأحكام والمعاملات والفرائض وغير ذلك، مثل اختلافهم في العدد والرؤية في الصوم، واختلافهم في أن التلفظ بثلاث تطليقات هل تقع واحدة أم لا؟ ومثل اختلافهم في باب الطهارة مقدار الماء الذي لا ينجسه شيء، ونحو اختلافهم في حد الكر، ونحو اختلافهم في استئناف الماء الجديد لمسح الرأس والرجلين، واختلافهم في اعتبار أقصى مدة النفاس واختلافهم في عدد فصول الأذان والإقامة وغير ذلك في سائر أبواب الفقه، حتى أن بابا منه لا يسلم إلا وجدت العلماء من الطائفة مختلفة في مسائل منه أو مسألة متفاوتة الفتاوى.
وقد ذكرت ما ورد عنهم (عليهم السلام) من الأحاديث المختلفة التي يختص الفقه في كتابي المعروف بالاستبصار وفي كتاب تهذيب الأحكام ما يزيد على خمسة آلاف حديث وذكرت في أكثرها اختلاف الطائفة في العمل بها، وذلك أشهر من أن يخفى حتى أنك لو تأملت اختلافهم في هذه الأحكام وجدته يزيد على اختلاف أبي حنيفة والشافعي ومالك، ووجدتهم مع هذا الاختلاف العظيم لم يقطع أحد منهم موالاة صاحبه ولم ينته إلى تضليله وتفسيقه والبراءة من مخالفه، فلولا أن العمل