ثم أقول: من جملة أدلتي على أن التصديق القلبي الضروري والكسبي الذي به يرتفع تردد النفس وشكها ليس من أفعال النفس الاختيارية بل من صنع الله تعالى، إنه لو كان من أفعال النفس لكان للنفس أن لا تصدق بصانع ولا بنبي ولا بأمر ولا بنهي، فيلزم إفحام الله تعالى عن إتمام الحجة عليها، ولما صح قوله تعالى: ﴿ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة﴾ (١) ولكان للنفس أن لا تعتقد بلوغ المال قدر النصاب لتفر من وجوب الزكاة، وغير ذلك.
وبعد اللتيا والتي ظهر عليك وانكشف لديك معنى قوله (عليه السلام): " الجحود والمعرفة من صنع الله تعالى ليس للعباد فيهما صنع " وذلك لأن المراد به أن فيضان المفهومات الخبرية الصادقة الإيمانية على القلوب وأدلتها القوية من صنع الله تعالى؛ وكذلك فيضان المفهومات الخبرية الكاذبة الكفرية وشبهاتها الضعيفة. والسبب في الأول إلهام الملك وفي الثاني وسوسة الشيطان. وهما نظير كلام الواعظ والمضل من بني آدم.
ويمكن أن يكون المراد به فيضان اليقين بالمفهومات الخبرية الإيمانية في آن تصورها وفيضان الظن بالمفهومات الخبرية الكفرية في آن آخر بعد ذلك الآن مع الأمر باتباع اليقين والنهي عن اتباع الظن. وإلى ذلك ناظر قوله تعالى: ﴿وهديناه النجدين﴾ (٢) أي نجد الخير ونجد الشر. والله أعلم.
وأما قوله تعالى: ﴿ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا﴾ (3) فمعناه: أنه يفعل ذلك، فمن اختار الضلالة على الهدى بعد المعرفة يرفع الملك عن قلبه والتخلية (4) بينه وبين الشيطان. أو أن القلب الخبيث الثابت شقاوته يوم الميثاق ويتبع وسوسة الشيطان فيضيق صدره بالظن الباطل الفائض من الله تعالى عقيب وسوسة الشيطان. والله أعلم بمراده.
ومن الموضحات لما ذكرناه: قول الرضا (عليه السلام) في رسالته المأمونية: اعلم أن الأجسام الإنسانية جعلت على مثال الملك، فملك الجسد هو ما في القلب، والعمال العروق والأوصال والدماغ، وبيت الملك قلبه، وأرضه الجسد، والأعوان يداه