متعلق يناكبون، والمعنى: أن هؤلاء الموصوفين بعدم الإيمان بالآخرة عن ذلك الصراط أو جنس الصراط لعادلون عنه. ثم بين سبحانه أنهم مصرون على الكفر لا يرجعون عنه بحال فقال (ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر) أي من قحط وجدب (للجوا في طغيانهم): أي لتمادوا في طغيانهم وضلالهم (يعمهون) يترددون ويتذبذبون ويخبطون، وأصل اللجاج التمادي في العناد، ومنه اللجة بالفتح لتردد الصوت، ولجة البحر تردد أمواجه، ولجة الليل ترد ظلامه. وقيل المعنى لو رددناهم إلى الدنيا ولم ندخلهم النار وامتحناهم للجوا في طغيانهم (ولقد أخذناهم بالعذاب) جملة مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها. والعذاب قيل هو الجوع الذي أصابهم في سنى القحط، وقيل المرض، وقيل القتل يوم بدر، واختاره الزجاج، وقيل الموت، وقيل المراد من أصابه العذاب من الأمم الخالية (فما استكانوا لربهم) أي ما خضعوا ولا تذللوا، بل أقاموا على ما كانوا فيه من التمرد على الله والانهماك في معاصيه (وما يتضرعون) أي وما يخشعون لله في الشدائد عند إصابتها لهم، ولا يدعونه لرفع ذلك (حتى إذا فتحنا عليهم بابا ذا عذاب شديد) قيل هو عذاب الآخرة، وقيل قتلهم يوم بدر بالسيف، وقيل القحط الذي أصابهم، وقيل فتح مكة (إذا هم فيه مبلسون) أي متحيرون، لا يدرون ما يصنعون، والإبلاس التحير والإياس من كل خير.
وقرأ السلمي " مبلسون " بفتح اللام من أبلسه: أي أدخله في الإبلاس. وقد تقدم في الأنعام (وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار) أمتن عليهم ببعض النعم التي أعطاهم، وهى نعمة السمع والبصر (والأفئدة) فصارت هذه الأمور معهم ليسمعوا المواعظ وينظروا العبر ويتفكروا بالأفئدة فلم ينتفعوا بشئ من ذلك لإصرارهم على الكفر وبعدهم عن الحق، ولم يشكروه على ذلك ولهذا قال (قليلا ما تشكرون) أي شكرا قليلا حقيرا غير معتد به باعتبار تلك النعم الجليلة. وقيل المعنى: أنهم لا يشكرونه البتة، لا أن لهم شكرا قليلا. كما يقال لجاحد النعمة: ما أقل شكره: أي لا يشكر، ومثل هذه الآية قوله - فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم - (وهو الذي ذرأكم في الأرض) أي بثكم فيها كما تبث الحبوب لتنبت وقد تقدم تحقيقه (وإليه تحشرون) أي تجمعون يوم القيامة بعد تفرقكم (وهو الذي يحيى ويميت على جهة الانفراد والاستقلال، وفى هذا تذكير لنعمة الحياة، وبيان الانتقال منها إلى الدار الآخرة (وله اختلاف الليل والنهار) قال الفراء: هو الذي جعلهما مختلفين يتعاقبان ويختلفان في السواد والبياض، وقيل اختلافهما نقصان أحدهما وزيادة الآخر، وقيل تكررهما يوما بعد يوم وليلة بعد ليلة (أفلا تعقلون) كنه قدرته وتتفكرون في ذلك. ثم بين سبحانه أن لا شبهة لهم في إنكار البعث إلا التشبث بحبل التقليد المبني على مجرد الاستبعاد فقال (بل قالوا مثل ما قال الأولون) أي آباؤهم والموافقون لهم في دينهم. ثم بين ما قاله الأولون فقال (قالوا أئذا كنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون) فهذا مجرد استبعاد لم يتعلقوا فيه بشئ من الشبه، ثم كملوا ذلك القول بقولهم (لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل) أي وعدنا هذا البعث ووعده آباؤنا الكائنون من قبلنا فلم نصدقه كما لم يصدقه (من قبلنا، ثم صرحوا بالتكذيب وفروا إلى مجرد الزعم الباطل فقالوا (إن هذا إلا أساطير الأولين) أي ما هذا إلا أكاذيب الأولين التي سطروها في الكتب جمع أسطورة كأحدوثة، والأساطير الأباطيل والترهات والكذب.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي صالح في قوله (أم لم يعرفوا رسولهم) قال: عرفوه ولكنهم حسدوه. وفى قوله (ولو اتبع الحق أهواءهم) قال: الحق الله عز وجل.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (بل أتيناهم بذكرهم) قال: بينا لهم. وأخرجوا عنه في قوله (عن الصراط لناكبون) قال: عن الحق لحائدون. وأخرج النسائي وابن جرير وابن أبي حاتم