اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف. وقيل المراد بالعذاب عذاب الآخرة، ورجح هذا بأن ما يقع منهم من الجؤار إنما يكون عند عذاب الآخرة، لأنه الاستغاثة بالله ولم يقع منهم ذلك يوم بدر ولا في سنى الجوع. ويجاب عنه بأن الجؤار في اللغة الصراخ والصياح. قال الجوهري: الجؤار مثل الخوار، يقال جأر الثور يجأر: أي صاح، وقد وقع منهم ومن أهلهم وأولادهم عند أن عذبوا بالسيف يوم بدر، وبالجوع في سنى الجوع، وليس الجؤار هاهنا مقيد بالجؤار الذي هو التضرع بالدعاء حتى يتم ما ذكره ذلك القائل، وجملة (إذا هم يجأرون) جواب الشرط، وإذا هي الفجائية، والمعنى: حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب فاجئوا بالصراخ، ثم أخبر سبحانه أنه يقال لهم حينئذ على جهة التبكيت (لا تجأروا اليوم) فالقول مضمر، والجملة مسوقة لتبكيتهم وإقناطهم وقطع أطماعهم، وخصص سبحانه المترفين مع أن العذاب لاحق بهم جميعا واقع على مترفيهم وغير مترفيهم لبيان أنهم بعد النعمة التي كانوا فيها صاروا على حالة تخالفها وتباينها، فانتقلوا من النعيم التام إلى الشقاء الخالص، وخص اليوم بالذكر للتهويل، وجملة (إنكم منا لا تنصرون) تعليل للنهي عن الجؤار، والمعنى: إنكم من عذابنا لا تمنعون ولا ينفعكم جزعكم. وقيل المعنى: إنكم لا يلحقكم من جهتنا نصرة تمنعكم مما دهمكم من العذاب.
ثم عدد سبحانه عليهم قبائحهم توبيخا لهم فقال (قد كانت آياتي تتلى عليكم) أي في الدنيا، وهى آيات القرآن (فكنتم على أعقابكم تنكصون) أي ترجعون وراءكم، وأصل النكوص أن يرجع القهقري، ومنه قول الشاعر:
زعموا أنهم على سبل الحق * وأنا نكص على الأعقاب وهو هنا استعارة للإعراض عن الحق، وقرأ علي بن أبي طالب " على أدباركم " بدل (على أعقابكم تنكصون) بضم الكاف، وعلى أعقابكم متعلق بتنكصون، عن أو متعلق بمحذوف وقع حالا من فاعل تنكصون (مستكبرين به) الضمير في به راجع إلى البيت العتيق، وقيل للحرم، والذي سوغ الإضمار قبل الذكر اشتهارهم بالاستكبار به وافتخارهم بولايته والقيام به، وكانوا يقولون: لا يظهر علينا أحد لأنا أهل الحرم وخدامه. وإلى هذا ذهب جمهور المفسرين. وقيل الضمير عائد إلى القرآن. والمعنى: أن سماعه يحدث لهم كبرا وطغيانا فلا يؤمنون به. قال ابن عطية: وهذا قول جيد. وقال النحاس: القول الأول أولى وبينه بما ذكرنا. فعلى القول الأول يكون به متعلقا بمستكبرين، وعلى الثاني يكون متعلقا ب (سامرا) لأنهم كانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون، وكان عامة سمرهم ذكر القرآن والطعن فيه، والسامر كالحاضر في الاطلاق على الجمع. قال الواحدي: السامر الجماعة يسمرون بالليل.: أي يتحدثون، ويجوز أن يتعلق " به " بقوله (تهجرون) والهجر بالفتح الهذيان: أي تهذون في شأن القرآن، ويجوز أن يكون من الهجر بالضم، وهو الفحش. وقرأ ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وأبو حياة " سمرا " بضم السين وفتح الميم مشددة، وقرأ زيد بن علي وأبو رجاء " سمارا " ورويت هذه القراءة عن ابن عباس، وانتصاب سامرا على الحال إما من فاعل تنكصون، أو من الضمير في مستكبرين، وقيل هو مصدر جاء على لفظ الفاعل، يقال قوم سامر، ومنه قول الشاعر:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا * أنيس ولم يسمر بمكة سامر قال الراغب: ويقال سامر وسمار، وسمر وسامرون. قرأ الجمهور " تهجرون " بفتح التاء المثناة من فوق وضم الجيم. وقرأ نافع وابن محيصن بضم التاء وكسر الجيم من أهجر: أي أفحش في منطقه. وقرأ زيد بن علي وابن محيصن وأبو نهيك بضم التاء وفتح الهاء وكسر الجيم مشددة مضارع هجر بالتشديد. وقرأ ابن أبي عاصم كالجمهور إلا أنه بالياء التحتية، وفيه التفات.