أو أخبرهم بأن الله قد غفر لهم ذلك اليوم على تقدير الوقف على عليكم (وهو أرحم الراحمين) يرحم عباده رحمة لا يتراحمون بها فيما بينهم فيجازى محسنهم ويغفر لمسيئهم. قوله (اذهبوا بقميصي هذا) قيل هذا القميص هو القميص الذي ألبسه الله إبراهيم لما ألقى في النار وكساه إبراهيم إسحاق وكساه إسحاق يعقوب. وكان يعقوب أدرج هذا القميص في قضيبه وعلقه في عنق يوسف لما كان يخاف عليه من العين، فأخبر جبريل يوسف أن يرسل به إلى يعقوب ليعود عليه بصره لأن فيه ريح الجنة. وريح الجنة لا يقع على سقيم إلا شفى ولا مبتلى إلا عوفي (فألقوه على وجه أبى يأت بصيرا) أي يصر بصيرا على أن " يأت " هي التي من أخوات كان. قال الفراء: يرجع بصيرا. وقال السدي:
يعد بصيرا. وقيل معناه: يأت إلى إلى مصر وهو بصير قد ذهب عنه العمى. ويؤيده قوله (وأتوني بأهلكم أجمعين) أي جميع من شمله لفظ الأهل من النساء والذراري، قيل كانوا نحو سبعين. وقيل ثلاثة وتسعين (ولما فصلت العير) أي خرجت منطلقة من مصر إلى الشام، يقال فصل فصولا، وفصلته فصلا، لازم ومتعد، ويقال فصل من البلد فصولا: إذا انفصل عنه وجاوز حيطانه (قال أبوهم) أي يعقوب لمن عنده في أرض كنعان من أهله (إني لأجد ريح يوسف) قيل إنها هاجت ريح فحملت ريح القميص إلى يعقوب مع طول المسافة، فأخبرهم بما وجد، ثم قال (لولا أن تفندون) لولا أن تنسبوني إلى الفند. وهو ذهاب العقل من الهرم. يقال أفند الرجل: إذا خرف وتغير عقله. وقال أبو عبيدة: لولا أن تسفهون، فجعل الفند السفه. وقال الزجاج: لولا أن تجهلون، فجعل الفند الجهل. ويؤيد قول من قال إنه السفه قول النابغة:
إلا سليمان إذ قال المليك له * قم في البرية فاحددها عن الفند أي امنعها عن السفه. وقال أبو عمرو الشيباني: التفنيد التقبيح، ومنه قول الشاعر:
يا صاحبي دعا لومي وتفنيد * فليس ما فات من أمري بمردود وقيل هو الكذب، ومنه قول الشاعر:
هل في افتخار الكريم من أود * أم هل لقول الصديق من فند وقال ابن الأعرابي (لولا أن تفندون) لولا أن تضعفوا رأيي. وروى مثله عن أبي عبيدة. وقال الأخفش:
التفنيد اللوم وضعف الرأي. وكل هذه المعاني راجع إلى التعجيز وتضعيف الرأي. يقال فنده تفنيدا: إذا عجزه، وأفند: إذا تكلم بالخطأ. والفند: الخطأ من الكلام، ومما يدل على إطلاقه على اللوم قول الشاعر:
يا عاذلي دعا الملام وأقصرا * طال الهوى وأطلتما التفنيدا أخبرهم يعقوب بأن الصبا قد حملت إليه ريح حبيبه. وأنه لولا ما يخشاه من التفنيد لما شك في ذلك:
فإن الصبا ريح إذا ما تنفست * على نفس مهموم تجلت همومها إذا قلت هذا حين أسلو يهيجني * نسيم الصبا من حيث ما يطلع الفجر ولقد تهب لي الصبا من أرضها * فيلذ مس هبوبها ويطيب (قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم) أي قال الحاضرون عنده من أهله: إنك يا يعقوب لفي ذهابك عن طريق الصواب الذي كنت عليه قديما من إفراط حبك ليوسف لا تنساه، ولا تفتر عنه، ولسان حال يعقوب يقول لهم:
لا يعرف الشوق إلا من يكابده * ولا الصبابة إلا من يعانيها