من الأمكنة التي يجلب ما فيها إليها (فكفرت) أي كفر أهلها (بأنعم الله) التي أنعم بها عليهم، والأنعم جمع نعمة كالأشد جمع شدة. وقيل جمع نعمى مثل بؤسي وأبؤس، وهذا الكفر منهم هو كفرهم بالله سبحانه وتكذيب رسله (فأذاقها الله) أي أذاق أهلها (لباس الجوع والخوف) سمى ذلك لباسا لأنه يظهر به عليهم من الهزال وشحوبة اللون وسوء الحال ما هو كاللباس، فاستعير له اسمه وأوقع عليه الإذاقة، وأصلها الذوق بالفم، ثم استعيرت لمطلق الاتصال مع إنبائها بشدة الإصابة لما فيها من اجتماع الإدراكين: إدراك اللمس، والذوق. روى أن ابن الرواندي الزنديق قال لابن الأعرابي إمام اللغة والأدب: هل يذاق اللباس؟ فقال له ابن الأعرابي: لا بأس أيها النسناس، هب أن محمدا ما كان نبيا أما كان عربيا؟ كأنه طعن في الآية بأن المناسب أن يقال: فكساها الله لباس الجوع أو فأذاقها الله طعم الجوع، فرد عليه ابن الأعرابي. وقد أجاب علماء البيان أن هذا من تجريد الاستعارة، وذلك أنه استعار اللباس لما غشى الإنسان من بعض الحوادث كالجوع والخوف لاشتماله عليه اشتمال اللباس على اللابس، ثم ذكر الوصف ملائما للمستعار له وهو الجوع والخوف. لأن إطلاق الذوق على إدراك الجوع والخوف جرى عندهم مجرى الحقيقة. فيقولون ذاق فلان البؤس والضر وأذاقه غيره، فكانت الاستعارة مجردة.
ولو قال فكساها كانت مرشحة. قيل وترشيح الاستعارة وإن كان مستحسنا من جهة المبالغة إلا أن للتجريد ترجيحا من حيث إنه روعي جانب المستعار له فازداد الكلام وضوحا: وقيل إن أصل الذوق بالفم ثم قد يستعار فيوضع موضع التعرف والاختبار، ومن ذلك قول الشاعر:
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها * وسيق إلينا عذبها وعذابها وقرأ حفص بن غياث ونصر بن عاصم وابن أبي إسحاق وأبو عمرو فيما روى عنه عبد الوارث بنصب الخوف عطفا على لباس، وقرأ الباقون بالضم عطفا على الجوع. قال الفراء: كل الصفات أجريت على القرية إلا قوله (يصنعون) تنبيها على أن المراد في الحقيقة أهلها (ولقد جاءهم) يعنى أهل مكة (رسول منهم) من جنسهم يعرفونه ويعرفون نسبه، فأمرهم بما فيه نفعهم ونهاهم عما فيه ضرهم (فكذبوه) فيما جاء به (فأخذهم العذاب) النازل بهم من الله سبحانه، والحال أنهم في حال أخذ العذاب لهم (ظالمون) لأنفسهم بإيقاعها في العذاب الأبدي ولغيرهم بالإضرار بهم وصدهم عن سبيل الله، وهذا الكلام من تمام المثل المضروب، وقيل إن المراد بالعذاب هنا هو الجوع الذي أصابهم، وقيل القتل يوم بدر: ثم لما وعظهم الله سبحانه بما ذكره من حال أهل القرية المذكورة أمرهم أن يأكلوا مما رزقهم الله من الغنائم ونحوها، وجاء بالفاء للاشعار بأن ذلك متسبب عن ترك الكفر. والمعنى:
أنكم لما آمنتم وتركتم الكفر فكلوا الحلال الطيب وهو الغنيمة واتركوا الخبائث وهو الميتة والدم (واشكروا نعمة الله) التي أنعم بها عليكم واعرفوا حقها (إن كنتم إياه تعبدون) ولا تعبدون غيره، أو إن صح زعمكم أنكم تقصدون بعبادة الآلهة التي زعمتم عبادة الله تعالى وقيل إن الفاء في فكلوا داخلة على الأمر بالشكر، وإنما أدخلت على الأمر بالأكل لأن الأكل ذريعة إلى الشكر (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله " كرر سبحانه ذكر هذه المحرمات في البقرة والمائدة والأنعام وفى هذه السورة قطعا للأعذار وإزالة للشبهة، ثم ذكر الرخصة في تناول شئ مما ذكر فقال (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم) وقد تقدم الكلام على جميع ما هو مذكور هنا مستوفى. ثم زيف طريقة الكفار في الزيادة على هذه المحرمات كالبحيرة والسائبة وفى النقصان عنها كتحليل الميتة والدم فقال (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب) قال الكسائي والزجاج: ما هنا مصدرية وانتصاب الكذب بلا تقولوا: أي لا تقولوا الكذب لأجل وصف ألسنتكم، ومعناه: لا تحرموا ولا تحللوا لأجل