لما ذكر سبحانه أدب المنع بعد النهى عن التبذير بين أدب الإنفاق فقال (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط) وهذا النهي يتناول كل مكلف سواء كان الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم تعريضا لأمته وتعليما لهم أو الخطاب لكل من يصلح له من المكلفين والمراد النهي للإنسان بأن يمسك إمساكا يصير به مضيقا على نفسه وعلى أهله ولا يوسع في الإنفاق توسيعا لا حاجة إليه بحيث يكون به مسرفا، فهو نهى عن جانبي الإفراط والتفريط. ويتحصل من ذلك مشروعية التوسط. وهو العدل الذي ندب الله إليه ولا تك فيها مفرطا أو مفرطا * كلا طرفي قصد الأمور ذميم وقد مثل الله سبحانه في هذه الآية حال الشحيح بحال من كانت يده مغلولة إلى عنقه بحيث لا يستطيع التصرف بها، ومثل حال من يجاوز الحد في التصرف بحال من يبسط يده بسطا لا يتعلق بسببه فيها شئ مما تقبض الأيدي عليه، وفى هذا التصوير مبالغة بليغة. ثم بين سبحانه غائلة الطرفين المنهي عنهما فقال (فتقعد ملوما) عند الناس بسبب ما أنت عليه من الشح (محسورا) بسبب ما فعلته من الإسراف: أي منقطعا عن المقاصد بسبب الفقر، والمحسور في الأصل: المنقطع عن السير، من حسره السفر إذا بلغ منه، والبعير الحسير هو الذي ذهبت قوته فلا انبعاث به، ومنه قوله تعالى - ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير - أي كليل منقطع، وقيل معناه نادما على ما سلف، فجعله هذا القائل من الحسرة التي هي الندامة، وفيه نظر لأن الفاعل من الحسرة حسران، ولا يقال محسور إلا للملوم. ثم سلى رسوله والمؤمنين بأن الذين يرهقهم من الاضاقة ليس لهوانهم على الله سبحانه، ولكن لمشيئة الخالق الرازق فقال (إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) أي يوسعه على بعض ويضيقه على بعض لحكمة بالغة لا لكون من وسع له رزقه مكرما عنده، ومن ضيقه عليه هائنا لديه. قيل ويجوز أن يراد أن البسط والقبض إنما هما من أمر الله الذي لا تفنى خزائنه، فأما عباده فعليهم أن يقتصدوا، ثم علل ما ذكره من البسط للبعض والتضييق على البعض بقوله (إنه كان بعباده خبيرا بصيرا) أي يعلم ما يسرون وما يعلنون، لا يخفى عليه من ذلك خافية، فهو الخبير بأحوالهم البصير بكيفية تدبيرهم في أرزاقهم. وفى هذه الآية دليل على أنه المتكفل بأرزاق عباده، فلذلك قال بعدها (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) أملق الرجل لم يبق له إلا الملقات: وهى الحجارة العظام الملس:
قال الهذلي يصف صائدا:
أتيح لها أقيدر ذو خشيف * إذا سامت على الملقات ساما الأقيدر إلا تصغير الأقدر: وهو الرجل القصير، والخشيف من الثياب الخلق، وسامت مرت، ويقال أملق إذا افتقر وسلب الدهر ما بيده. قال أوس: * وأملق ما عندي خطوب تنبل * نهاهم الله سبحانه عن أن يقتلوا أولادهم خشية الفقر، وقد كانوا يفعلون ذلك، ثم بين لهم أن خوفهم من الفقر حتى يبلغوا بسبب ذلك إلى قتل الأولاد لا وجه له، فإن الله سبحانه هو الرازق لعباده يرزق الأبناء كما يرزق الآباء فقال (نحن نرزقهم وإياكم) ولستم لهم برازقين حتى تصنعوا بهم هذا الصنع، وقد مر مثل هذه الآية في الأنعام ثم علل سبحانه النهي عن قتل الأولاد لذلك بقوله (إن قتلهم كان خطئا كبيرا) قرأ الجمهور بكسر الخاء وسكون الطاء وبالهمز المقصور. وقرأ ابن عامر خطأ بفتح الخاء والطاء والقصر في الهمز، يقال خطئ في دينه خطئا: إذا أثم، وأخطأ: إذا سلك سبيل خطأ عامدا أو غير عامد. قال الأزهري، خطئ يخطأ خطئا مثل أثم يأثم إثما: إذا تعمد الخطأ، وأخطأ: إذا لم يتعمد أخطاء وخطاء، قال الشاعر:
دعيني إنما خطأ وصدا * علي وإنما أهلكت مالي