النسوة وسكت عن امرأة العزيز رعاية لذمام الملك العزيز، أو خوفا منه من كيدها وعظيم شرها - وذكر السؤال عن تقطيع الأيدي ولم يذكر مراودتهن له، تنزها منه عن نسبة ذلك إليهن، ولذلك لم ينسب المراودة فيما تقدم إلى امرأة العزيز إلا بعد أن رمته بدائها وانسلت. وقد اكتفى هنا بالإشارة الإجمالية بقوله (إن ربى بكيدهن عليم) فجعل علم الله سبحانه بما وقع عليه من الكيد منهن مغنيا عن التصريح، وجملة (قال فما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه) مستأنفة جواب سؤال مقدر. كأنه قيل: فماذا قال الملك بعد أن أبلغه الرسول ما قال يوسف؟
والخطب: الشأن العظيم الذي يحق له أن يخاطب فيه صاحبه خاصة. والمعنى: ما شأنكن إذا راودتن يوسف عن نفسه. وقد تقدم معنى المراودة، وإنما نسب إليهن المراودة، لأن كل واحدة منهن وقع منها ذلك كما تقدم، ومن جملة من شمله خطاب الملك امرأة العزيز، أو أراد بنسبة ذلك إليهن وقوعه منهن في الجملة كما كان من امرأة العزيز تحاشيا عن التصريح منه بنسبة ذلك إليها لكونها امرأة وزيره وهو العزيز، فأجبن عليه بقولهن (قلن حاش لله) أي معاذ الله (ما علمنا عليه من سوء) أي من أمر سئ ينسب إليه، فعند ذلك (قالت امرأة العزيز) منزهة لجانبه مقرة على نفسها بالمراودة له (الآن حصحص الحق) أي تبين وظهر. وأصله حص، فقيل حصحص كما قيل في كبوا كبكبوا، قاله الزجاج، وأصل الحص: استئصال الشئ، يقال حص شعره: إذا استأصله، ومنه قول أبي قيس بن الأسلت:
قد حصت البيضة رأسي فما * أطعم نوما غير تهجاع والمعنى أنه انقطع الحق عن الباطل بظهوره وبيانه، ومنه:
فمن مبلغ عني خداشا فإنه * كذوب إذا ما حصحص الحق ظالم وقيل هو مشتق من الحصة. والمعنى: بانت حصة الباطل. قال الخليل: معناه ظهر الحق بعد خفائه، ثم أوضحت ذلك بقولها (أنا راودته عن نفسه) ولم تقع منه المراودة لي أصلا (وإنه لمن الصادقين) فيما قاله من تبرئة نفسه ونسبة المراودة إليها، وأرادت بالآن زمان تكلمها بهذا الكلام. قوله (ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب) ذهب أكثر المفسرين إلى هذا من كلام يوسف عليه السلام. قال الفراء: ولا يبعد وصل كلام إنسان بكلام إنسان آخر إذا دلت القرينة الصارفة لكل منهما إلى ما يليق به، والإشارة إلى الحادثة الواقعة منه، وهى تثبته وتأنيه:
أي فعلت ذلك ليعلم العزيز أني لم أخنه في أهله بالغيب، والمعنى بظهر الغيب، والجار والمجرور في محل نصب على الحال: أي وهو غائب عني، أو وأنا غائب عنه. قيل إنه قال ذلك وهو في السجن بعد أن أخبره الرسول بما قالته النسوة، وما قالته امرأة العزيز، وقيل إنه قال ذلك وقد صار عند الملك، والأول أولى. وذهب الأقلون من المفسرين إلى أن هذا من كلام امرأة العزيز، والمعنى: ذلك القول الذي قلته في تنزيهه، والإقرار على نفسي بالمراودة ليعلم يوسف أني لم أخنه فأنسب إليه ما لم يكن منه وهو غائب عني، أو وأنا غائبة عنه (وأن الله لا يهدى كيد الخائنين) أي لا يثبته ويسدده، أولا يهديهم في كيدهم حتى يوقعوه على وجه يكون له تأثير يثبت به ويدوم وإذا كان من قول يوسف ففيه تعريض بامرأة العزيز حيث وقع منها الكيد له والخيانة لزوجها، وتعريض بالعزيز حيث ساعدها على حبسه بعد أن علم براءته ونزاهته (وما أبرئ نفسي) إن كان من كلام يوسف فهو من باب الهضم للنفس، وعدم التزكية بها مع أنه قد علم هو وغيره من الناس أنه برئ وظهر ذلك ظهور الشمس، وأقرت به المرأة التي ادعت عليه الباطل، ونزهته النسوة اللاتي قطعن أيديهن، وإن كان من كلام امرأة العزيز فهو واقع على الحقيقة، لأنها قد أقرت بالذنب، واعترفت بالمراودة وبالافتراء على يوسف. وقد قيل إن هذا من قول العزيز