والتوبيخ، والمعنى: إن لم تؤمن أمة من الأمم المهلكة عند إعطاء ما اقترحوا، فكيف يؤمن هؤلاء لو أعطوا ما اقترحوا، ثم أجاب سبحانه عن قولهم: هل هذا إلا بشر مثلكم بقوله (وما أرسلنا قبلك إلا رجالا يوحى إليهم) أي لم نرسل قبلك إلى الأمم السابقة إلا رجالا من البشر، ولم نرسل إليهم ملائكة كما قال سبحانه - قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا - وجملة يوحى إليهم مستأنفة لبيان كيفية الإرسال، ويجوز أن تكون صفة لرجالا: أي متصفين بصفة الإيحاء إليهم. قرأ حفص وحمزة والكسائي " نوحي " بالنون، وقرأ الباقون بالياء التحتية. ثم أمرهم الله بأن يسألوا أهل الذكر إن كانوا يجهلون هذا فقال (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) وأهل الذكر هم أهل الكتابين: اليهود والنصارى، ومعنى إن كنتم لا تعلمون: إن كنتم لا تعلمون أن رسل الله من البشر، كذا قال أكثر المفسرين. وقد كان اليهود والنصارى لا يجهلون ذلك ولا ينكرونه، وتقدير الكلام: إن كنتم لا تعلمون ما ذكر فاسألوا أهل الذكر. وقد استدل بالآية على أن التقليد جائز وهو خطأ، ولو سلم لكان المعنى سؤالهم عن النصوص من الكتاب والسنة، لا عن الرأي البحت، وليس التقليد إلا قبول قول الغير دون حجته. وقد أوضحنا هذا في رسالة بسيطة: سميناها " القول المفيد في حكم التقليد " ثم لما فرغ سبحانه من الجواب عن شبهتهم أكد كون الرسل من جنس البشر فقال (وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام) أي أن الرسل أسوة لسائر أفراد بني آدم في حكم الطبيعة يأكلون كما يأكلون ويشربون كما يشربون، والجسد جسم الإنسان. قال الزجاج: هو واحد، يعني الجسد ينبئ عن جماعة: أي وما جعلناهم ذوي أجساد لا يأكلون الطعام فجملة لا يأكلون الطعام صفة لجسدا: أي وما جعلناهم جسدا مستغنيا عن الأكل، بل هو محتاج إلى ذلك (وما كانوا خالدين) بل يموتون كما يموت غيرهم من البشر، وقد كانوا يعتقدون أن الرسل لا يموتون، فأجاب الله عليهم بهذا، وجملة (ثم صدقناهم الوعد) معطوفة على جملة يدل عليها السياق، والتقدير: أوحينا إليهم ما أوحينا، ثم صدقناهم الوعد: أي أنجزنا وعدهم الذي وعدناهم بإنجائهم وإهلاك من كذبهم، ولهذا قال سبحانه (فأنجيناهم ومن نشاء) من عبادنا المؤمنين، والمراد إنجاؤهم من العذاب وإهلاك من كفر بالعذاب الدنيوي، والمراد ب (المسرفين) المجاوزون للحد في الكفر والمعاصي، وهم المشركون.
وقد أخرج النسائي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (وهم في غفلة معرضون) قال:
في الدنيا. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الآية قال: من أمر الدنيا.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله (بل قالوا أضغاث أحلام) أي فعل الأحلام إنما هي رؤيا رآها (بل افتراه بل هو شاعر) كل هذا قد كان منه (فليأتينا بآية كما أرسل الأولون) كما جاء عيسى وموسى بالبينات والرسل (ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها) أي أن الرسل كانوا إذا جاءوا قومهم بالبينات فلم يؤمنوا لم ينظروا.
وأخرج ابن جرير عن قتادة قال: قال أهل مكة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إذا كان ما تقوله حقا ويسرك أن نؤمن فحول لنا الصفا ذهبا، فأتاه جبريل فقال: إن شئت كان الذي سألك قومك، ولكنه إن كان ثم لم يؤمنوا لم ينظروا، وإن شئت استأنيت بقومك، قال: بل أستأني بقومي، فأنزل الله (ما آمنت قبلهم) الآية.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام) يقول: لم نجعلهم جسدا ليس يأكلون الطعام، إنما جعلناهم جسدا يأكلون الطعام.
سورة الأنبياء الآية (10)