تعالى - وهى تمر مر السحاب -، ثم تعود إلى الأرض بعد أن جعلها الله كما قال - وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا - والخطاب في قوله (وترى الأرض بارزة) لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو لكل من يصلح للرؤية، ومعنى بروزها ظهورها وزوال ما يسترها من الجبال والشجر والبنيان، وقيل المعنى ببروزها بروز ما فيها من الكنوز والأموات كما قال سبحانه - وألقت ما فيها وتخلت -، وقال - وأخرجت الأرض أثقالها - فيكون المعنى: وترى الأرض بارزا ما في جوفها (وحشرناهم) أي الخلائق، ومعنى الحشر الجمع: أي جمعناهم إلى الموقف من كل مكان (فلم نغادر منهم أحدا) فلم نترك منهم أحدا، يقال غادره وأغدره إذا تركه، قال عنترة:
غادرته متعفرا أوصاله * والقوم بين مجرح ومجندل أي تركته، ومنه الغدر، لأن الغادر ترك الوفاء للمغدور، قالوا: وإنما سمى الغدير غديرا، لأن الماء ذهب وتركه، ومنه غدائر المرأة لأنها تجعلها خلفها (وعرضوا على ربك صفا) انتصاب صفا على الحال: أي مصفوفين كل أمة وزمرة صف، وقيل عرضوا صفا واحدا كما في قوله - ثم ائتوا صفا - أي جميعا، وقيل قياما. وفى الآية تشبيه حالهم بحال الجيش الذي يعرض على السلطان (لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة هو على إضمار القول: أي قلنا لهم لقد جئتمونا، والكاف في كما خلقناكم نعت مصدر محذوف: أي مجيئا كائنا كمجيئكم عند أن خلقناكم أول مرة، أو كائنين كما خلقناكم أول مرة: أي حفاة عراة غرلا، كما ورد ذلك في الحديث. قال الزجاج: أي بعثناكم وأعدناكم كما خلقناكم، لأن قوله لقد جئتمونا معناه بعثناكم (بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدا) هذا إضراب وانتقال من كلام إلى كلام للتقريع والتوبيخ، وهو خطاب لمنكري البعث: أي زعمتم في الدنيا أن لن تبعثوا، وأن لن نجعل لكم موعدا نجازيكم بأعمالكم وننجز ما وعدناكم به من البعث والعذاب، وجملة (ووضع الكتاب) معطوفة على عرضوا، والمراد بالكتاب صحائف الأعمال، وأفرده لكون التعريف فيه للجنس، والوضع إما حسي بأن يوضع صحيفة كل واحد في يده: السعيد في يمينه، والشقي في شماله، أو في الميزان. وإما عقلي: أي أظهر عمل كل واحد من خير وشر بالحساب الكائن في ذلك اليوم (فترى المجرمين مشفقين مما فيه) أي خائفين وجلين مما في الكتاب الموضوع لما يتعقب ذلك من الافتضاح في ذلك الجمع، والمجازاة بالعذاب الأليم (ويقولون يا ويلتنا) يدعون على أنفسهم بالويل لوقوعهم في الهلاك، ومعنى هذا النداء قد تقدم تحقيقه في المائدة (مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها) أي أي شئ له لا يترك معصية صغيرة ولا معصية كبيرة إلا حواها وضبطها وأثبتها (ووجدوا ما عملوا) في الدنيا من المعاصي الموجبة للعقوبة، أو وجدوا جزاء ما عملوا (حاضرا) مكتوبا مثبتا (ولا يظلم ربك أحدا) أي لا يعاقب أحدا من عباده بغير ذنب، ولا ينقص فاعل الطاعة من أجره الذي يستحقه، ثم إنه سبحانه عاد إلى الرد على أرباب الخيلاء من قريش، فذكر قصة آدم واستكبار إبليس عليه فقال (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) أي واذكر وقت قولنا لهم اسجدوا سجود تحية وتكريم، كما مر تحقيقه (فسجدوا) طاعة لأمر الله وامتثالا لطلبه السجود (إلا إبليس) فإنه أبى واستكبر ولم يسجد، وجملة (كان من الجن) مستأنفة لبيان سبب عصيانه وأنه كان من الجن ولم يكن من الملائكة فلهذا عصى، ومعنى (ففسق عن أمر ربه) أنه خرج عن طاعة ربه. قال الفراء: العرب تقول فسقت الرطبة عن قشرها لخروجها منه. قال النحاس:
اختلف في معنى (ففسق عن أمر ربه) على قولين: الأول مذهب الخليل وسيبويه أن المعنى: أتاه الفسق لما أمر فعصى فكان سبب الفسق أمر ربه. كما تقول أطعمه عن جوع. والقول الآخر قول قطرب: أن المعنى على على حذف المضاف: أي فسق عن ترك أمره. ثم إنه سبحانه عجب من حال من أطاع إبليس في الكفر والمعاصي