قوله (وإذ قال إبراهيم) متعلق بمحذوف: أي أذكر وقت قوله، ولعل المراد بسياق ما قاله إبراهيم عليه السلام في هذا الموضع بيان كفر قريش بالنعم الخاصة بهم، وهى إسكانهم مكة بعد ما بين كفرهم بالنعم العامة، وقيل إن ذكر قصة إبراهيم ها هنا لمثال الكلمة الطيبة، وقيل لقصد الدعاء إلى التوحيد، وإنكار عبادة الأصنام (رب اجعل هذا البلد آمنا) المراد بالبلد هنا مكة: دعا إبراهيم ربه أن يجعله آمنا: أي ذا أمن، وقدم طلب الأمن على سائر المطالب المذكورة بعده، لأنه إذا انتفى الأمن لم يفرغ الإنسان لشئ آخر من أمور الدين والدنيا، وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية في البقرة عند قوله تعالى - رب اجعل هذا بلدا آمنا -، والفرق بين ما هنا وما هنالك أن المطلوب هنا مجرد الأمن للبلد، والمطلوب هنالك البلدية والأمن (واجنبني وبنى أن نعبد الأصنام)، يقال جنبته كذا وأجنبته وجنبته: أي باعدته عنه، والمعنى: باعدني، وباعد بنى عن عبادة الأصنام، قيل أراد بنيه من صلبه وكانوا ثمانية، وقيل أراد من كان موجودا حال دعوته من بنيه وبنى بنيه، وقيل أراد جميع ذريته ما تناسلوا، ويؤيد ذلك ما قيل من أنه لم يعبد أحد من أولاد إبراهيم صنما، والصنم هو التمثال الذي كانت تصنعه أهل الجاهلية من الأحجار ونحوها فيعبدونه. وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر " وأجنبني " بقطع الهمزة على أن أصله أجنب (رب إنهن أضللن كثيرا من الناس) أسند الإضلال إلى الأصنام مع كونها جمادات لا تعقل، لأنها سبب لضلالهم فكأنها أضلتهم، وهذه الجملة تعليل لدعائه لربه، ثم قال (فمن تبعني) أي من تبع ديني من الناس فصار مسلما موحدا (فإنه منى) أي من أهل ديني: جعل أهل ملته كنفسه مبالغة (ومن عصاني) فلم يتتابعني ويدخل في ملتي (فإنك غفور رحيم) قادر على أن تغفر له، قيل قال هذا قبل أن يعلم أن الله لا يغفر أن يشرك به كما وقع منه الاستغفار لأبيه وهو مشرك، كذا قال ابن الأنباري، وقيل المراد عصيانه هنا فيما دون الشرك، وقيل إن هذه المغفرة مقيدة بالتوبة من الشرك، ثم قال (ربنا إني أسكنت من ذريتي) قال الفراء: من للتبعيض: أي بعض ذريتي.
وقال ابن الأنباري: إنها زائدة: أي أسكنت ذريتي، والأول أولى، لأنه إنما أسكن إسماعيل وهو بعض ولده (بواد غير ذي زرع) أي لا زرع فيه، وهو وادى مكة (عند بيتك المحرم) أي الذي يحرم فيه ما يستباح في غيره، وقيل إنه محرم على الجبابرة، وقيل محرم من أن تنتهك حرمته، أو يستخف به. وقد تقدم في سورة المائدة ما يغنى عن الإعادة، ثم قال (ربنا ليقيموا الصلاة) اللام متعلقة بأسكنت: أي أسكنتهم ليقيموا الصلاة فيه، متوجهين إليه، متبركين به، وخصها دون سائر العبادات لمزيد فضلها، ولعل تكرير النداء لإظهار العناية الكاملة بهذه العبادة (فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم) الأفئدة جمع فؤاد، وهو القلب، عبر به عن جميع البدن، لأنه أشرف عضو فيه. وقيل هو جمع وفد والأصل أوقدة رسول فقدمت الفاء، وقلبت الواو ياء، فكأنه قال: وجعل وفودا من الناس تهوى إليهم، و " من " في من الناس للتبعيض، وقيل زائدة ولا يلزم منه أن يحج اليهود والنصارى بدخولهم تحت لفظ الناس، لأن المطلوب توجيه قلوب الناس إليهم للسكون معهم والجلب إليهم لا توجيهها إلى الحج، ولو كان هذا مرادا لقال تهوى إليه، وقيل من للابتداء كقولك: القلب منى سقيم، يريد قلبي، ومعنى تهوى إليهم: تنزع إليهم، يقال هوى نحوه: إذا مال، وهوت الناقة تهوى هويا فهي هاوية: إذا عدت عدوا شديدا كأنها تهوى في بئر، ويحتمل أن يكون المعنى: تجئ إليهم أو تسرع إليهم، والمعنى متقارب (وارزقهم من الثمرات) أي ارزق ذريتي الذين أسكنتهم هنالك أو هم ومن يساكنهم من الناس من أنواع الثمرات التي تنبت فيه، أو تجلب إليه (لعلهم يشكرون) نعمك التي أنعمت بها عليهم (ربنا إنك تعلم ما نخفى وما نعلن) أي ما نكتمه وما نظهره، لأن الظاهر والمضمر بالنسبة إليه سبحانه سيان، قيل والمراد هنا بما نخفى ما يقابل ما نعلن، فالمعنى ما نظهره