بشر مثلكم) أي قال الملأ لقومهم هذا القول، وصفوه بمساواتهم في البشرية، وفى الأكل (مما تأكلون منه) والشرب مما تشربون منه، وذلك يستلزم عندهم أنه لا فضل له عليهم. قال الفراء: إن معنى (ويشرب مما تشربون) على حذف منه: أي مما تشربون منه وقيل إن ما مصدرية، فلا تحتاج إلى عائد (ولئن أطعتم بشرا مثلكم) فيما ذكر من الأوصاف (إنكم إذا لخاسرون) أي مغبونون بترككم آلهتكم واتباعكم إياه من غير فضيلة له عليكم، والاستفهام في قوله (أيعدكم أنكم إذا متم) للإنكار، والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها من تقبيح اتباعهم له.
قرئ بكسر الميم من متم، من مات يمات كخاف يخاف. وقرئ بضمها من مات يموت: كقال يقول (وكنتم ترابا وعظاما) أي كان بعض أجزائكم ترابا، وبعضها عظاما نخرة لا لحم فيها ولا أعصاب عليها، قيل وتقديم التراب لكونه أبعد في عقولهم. وقيل المعنى: كان متقدموكم ترابا، ومتأخروكم عظاما (أنكم مخرجون) أي من قبوركم أحياء كما كنتم، قال سيبويه: أن الأولى في موضع نصب بوقوع أيعدكم عليها، وأن الثانية بدل منها. وقال الفراء والجرمي والمبرد: إن أن الثانية مكررة للتوكيد، وحسن تكريرها لطول الكلام، وبمثله قال الزجاج وقال الأخفش: أن الثانية في محل رفع بفعل مضمر: أي يحدث إخراجكم كما تقول: اليوم القتال، فالمعنى: اليوم يحدث القتال (هيهات هيهات لما توعدون) أي بعد ما توعدون، أو بعيد ما توعدون، والتكرير للتأكيد. قال ابن الأنباري: وفى هيهات عشر لغات ثم سردها، وهى مبينة في علم النحو. وقد قرئ ببعضها، واللام في لما توعدون لبيان المستبعد كما في قولهم: هيت لك، كأنه قيل لماذا هذا الاستبعاد؟ فقيل لما توعدون. والمعنى:
بعد إخراجكم للوعد الذي توعدون، هذا على أن هيهات اسم فعل. وقال الزجاج: هو في تقدير المصدر: أي البعد لما توعدون، أو بعد لما توعدون على قراءة من نون فتكون على هذا مبتدأ خبره لما توعدون. ثم بين سبحانه إترافهم بأنهم قالوا (إن هي إلا حياتنا الدنيا) أي ما الحياة إلا حياتنا الدنيا، لا الحياة الآخرة التي تعدنا بها، وجملة (نموت ونحيا) مفسرة لما ادعوه من قصرهم حياتهم على حياة الدنيا. ثم صرحوا بنفي البعث، وأن الوعد به منه افتراء على الله فقالوا (وما نحن بمبعوثين إن هو إلا رجل افترى على الله كذبا) أي ما هو فيما يدعيه إلا مفتر للكذب على الله (وما نحن له بمؤمنين) أي بمصدقين له فيما يقوله (قال رب انصرني) أي قال نبيهم لما علم بأنهم لا يصدقونه البتة: رب انصرني عليهم وانتقم لي منهم بسبب تكذيبهم إياي (قال عما قليل ليصبحن نادمين) أي قال الله سبحانه مجيبا لدعائه واعدا له بالقبول لما دعا به: عما قليل من الزمان ليصبحن نادمين على ما وقع منهم من التكذيب والعناد والإصرار على الكفر، و " ما " في عما قليل مزيدة بين الجار والمجرور للتوكيد لقلة الزمان كما في قوله " فبما رحمة من الله ". ثم أخبر سبحانه بأنها (أخذتهم الصيحة) وحاق بهم عذابه ونزل عليهم سخطه. قال المفسرون: صاح بهم جبريل صيحة واحدة مع الريح التي أهلكهم الله بها فماتوا جميعا. وقيل الصيحة: هي نفس العذاب الذي نزل بهم، ومنه قول الشاعر:
صاح الزمان بآل برمك صيحة * خروا لشدتها على الأذقان والباء في بالحق متعلق بالأخذ، ثم أخبر سبحانه عما صاروا إليه بعد العذاب النازل بهم: فقال (فجعلناهم غثاء) أي كغثاء السيل الذي يحمله: والغثاء ما يحمل السيل من بالي الشجر والحشيش والقصب ونحو ذلك مما يحمله على ظاهر الماء. والمعنى: صيرهم هلكى فيبسوا كما يبس الغثاء (فبعدا للقوم الظالمين) انتصاب بعدا على المصدرية وهو من المصادر التي لا يذكر فعلها معها: أي بعدوا بعدا، واللام لبيان من قيل له ذلك.