الضمير في قائلها يرجع إلى الله: أي لا خلف في خبره، وقد أخبرنا بأنه لا يؤخر نفسا إذا جاء أجلها (ومن ورائهم برزخ) أي من أمامهم وبين أيديهم: والبرزخ هو الحاجز بين الشيئين. قاله الجوهري.
واختلف في معنى الآية، فقال الضحاك ومجاهد وابن زيد: حاجز بين الموت والبعث. وقال الكلبي: هو الأجل ما بين النفختين، وبينهما أربعون سنة. وقال السدى: هو الأجل، و (إلى يوم يبعثون) هو يوم القيامة (فإذا نفخ في الصور) قيل هذه هي النفخة الأولى، وقيل الثانية، وهذا أولى، وهي النفخة التي تقع بين البعث والنشور، وقيل المعنى، فإذا نفخ في الأجساد أرواحها، على أن الصور جمع صورة، لا القرن ويدل على هذا قراءة ابن عباس والحسن " الصور " بفتح الواو مع ضم الصاد جمع صورة. وقرأ أبو رزين بفتح الصاد والواو. وقرأ الباقون بضم الصاد وسكون الواو، وهو القرن الذي ينفخ فيه (فلا أنساب بينهم يومئذ) أي لا يتفاخرون بالأنساب ويذكرونها لما هم فيه من الحيرة والدهشة (ولا يتساءلون) أي لا يسأل بعضهم بعضا، فإن لهم إذ ذاك شغلا شاغلا، ومنه قوله تعالى " يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه "، وقوله " ولا يسأل حميم حميما "، ولا ينافي هذا ما في الآية الأخرى من قوله " وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون " فإن ذلك محمول على اختلاف المواقف يوم القيامة، فالإثبات باعتبار بعضها، والنفي باعتبار بعض آخر كما قررناه في نظائر هذا، مما أثبت تارة ونفي أخرى (فمن ثقلت موازينه) أي موزوناته من أعماله الصالحة (فأولئك هم المفلحون) أي الفائزون بمطالبهم المحبوبة، الناجون من الأمور التي يخافونها (ومن خفت موازينه) وهى أعماله الصالحة (فأولئك الذين خسروا أنفسهم) أي ضيعوها وتركوا ما ينفعها (في جهنم خالدون) هذا بدل من صلة الموصول، أو خبر ثان لاسم الإشارة، وقد تقدم الكلام على هذه الآية مستوفى فلا نعيده، وجملة (تلفح وجوههم النار) مستأنفة، ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال، أو تكون خبرا آخر لأولئك، واللفح الإحراق، يقال لفحته النار، إذا أحرقته، ولفحته بالسيف:
إذا ضربته، وخص الوجوه لأنها أشرف الأعضاء (وهم فيها كالحون) هذه الجملة في محل نصب على الحال، والكالح الذي قد تشمرت شفتاه وبدت أسنانه، قاله الزجاج. ودهر كالح: أي شديد. قال أهل اللغة: الكلوح تكنيز في عبوس، وجملة (ألم تكن آياتي تتلى عليكم) هي على إضمار القول: أي يقال لهم ذلك توبيخا وتقريعا:
أي ألم تكن آياتي تتلى عليكم في الدنيا (فكنتم بها تكذبون) وجملة (قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا) مستأنفة جواب سؤال مقدر: أي غلبت علينا لذاتنا وشهواتنا، فسمى ذلك شقوة، لأنه يؤول إلى الشقاء. قرأ أهل المدينة وأبو عمرو وعاصم " شقوتنا " وقرأ الباقون " شقاوتنا " وهذه القراءة مروية عن ابن مسعود والحسن (وكنا قوما ضالين) أي بسبب ذلك فإنهم ضلوا عن الحق بتلك الشقوة. ثم طلبوا ما لا يجابون إليه فقالوا (ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون) أي فإن عدنا إلى ما كنا عليه من الكفر وعدم الإيمان فإنا ظالمون لأنفسنا بالعود إلى ذلك، فأجاب الله عليهم بقوله (قال اخسئوا فيها ولا تكلمون) أي اسكنوا في جهنم. قال المبرد: الخسء إبعاد بمكروه وقال الزجاج: تباعدوا تباعد سخط وأبعدوا بعد الكلب. فالمعنى على هذا: أبعدوا في جهنم، كما يقال للكلب اخسأ: أي أبعد، خسأت الكلب خسأ طردته، ولا تكلمون في إخراجكم من النار ورجوعكم إلى الدنيا، أو في رفع العذاب عنكم، وقيل المعنى: لا تكلمون رأسا. ثم علل ذلك بقوله (إنه كان فريق من عبادي يقولون) وهم المؤمنون، وقيل الصحابة، يقولون (ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين) قرأ الجمهور " إنه كان فريق " بكسر إن استئنافا تعليليا " وقرأ أبي بفتحها (فاتخذتموهم سخريا) قرأ نافع وحمزة والكسائي بضم السين. وقرأ