أهواءهم) مستأنفة مسوقة لبيان أنه لو جاء الحق عل ما يهوونه ويريدونه لكان ذلك مستلزما للفساد العظيم، وخروج نظام العالم عن الصلاح بالكلية، وهو معنى قوله (لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن) قال أبو صالح وابن جريج ومقاتل والسدي: الحق هو الله، والمعنى: لو جعل مع نفسه كما يحبون شريكا لفسدت السماوات والأرض.
وقال الفراء والزجاج: يجوز أن يكون المراد بالحق القرآن: أي لو نزل القرآن بما يحبون من الشرك لفسد نظام العالم.
وقيل المعنى: ولو كان الحق ما يقولون من اتحاد الآلهة مع الله لاختلف الآلهة، ومثل ذلك قوله " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " وقد ذهب إلى القول الأول الأكثرون، ولكنه يرد عليه أن المراد بالحق هنا هو الحق المذكور قبله في قوله (بل جاءهم بالحق) ولا يصح أن يكون المراد به هنالك الله سبحانه، فالأولى تفسير الحق هنا وهناك بالصدق الصحيح من الدين الخالص من شرع الله، والمعنى: ولو ورد الحق متابعا لأهوائهم موافقا لفاسد مقاصدهم لحصل الفساد، والمراد بقوله (ومن فيهن) من في السماوات والأرض من المخلوقات. وقرأ ابن مسعود " وما بينهما " وسبب فساد المكلفين من بني آدم ظاهر، وهو ذنوبهم التي من جملتها الهوى المخالف للحق، وأما فساد ما عداهم فعلى وجه التبع لأنهم مدبرون في الغالب بذوي العقول فلما فسدو فسدوا. ثم ذكر سبحانه أن نزول القرآن عليهم من جملة الحق فقال (بل أتيناهم بذكرهم) والمراد بالذكر هنا القرآن: أي بالكتاب الذي هو فخرهم وشرفهم، ومثله قوله " وإنه لذكر لك ولقومك " والمعنى: بل أتيناهم بفخرهم وشرفهم الذي كان يجب عليهم أن يقبلوه، ويقبلوا عليه. وقال قتادة: المعنى بذكرهم الذي ذكر فيه ثوابهم وعقابهم. وقيل المعنى: بذكر ما لهم به حاجة من أمر الدين. وقرأ ابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر " أتيتهم " بتاء التكلم. وقرأ أبو حياة والجحدري " أتيتهم " بتاء الخطاب: أي أتيتهم يا محمد. وقرأ عيسى بن عمر " بذكراهم " وقرأ قتادة - نذكرهم " بالنون والتشديد من التذكير، وتكون الجملة على هذه القراءة في محل نصب على الحال، وقيل الذكر هو الوعظ والتحذير (فهم عن ذكرهم معرضون) أي هم بما فعلوا من الاستكبار والنكوص عن هذا الذكر المختص بهم معرضون لا يلتفون إليه بحال من الأحوال، وفى هذا التركيب ما يدل على أن إعراضهم مختص بذلك لا يتجاوزه إلى غيره. ثم بين سبحانه أن دعوة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ليست مشوبة بأطماع الدنيا فقال (أم تسألهم خرجا) وأم هي المنقطعة، والمعنى: أم يزعمون أنك تسألهم خرجا تأخذه على الرسالة. والخرج الأجر والجعل، فتركوا الإيمان بك وبما جئت به لأجل ذلك، مع أنهم يعلمون أنك لم تسألهم ذلك ولا طلبته منهم (فخراج ربك خير) أي فرزق ربك الذي يرزقك في الدنيا، وأجره الذي يعطيكه في الآخرة خير لك مما ذكر. قرأ حمزة والكسائي والأعمش ويحيى بن وثاب " أم تسألهم خراجا " وقرأ الباقون " خرجا " وكلهم قرأوا (فخراج) إلا ابن عامر وأبا حياة فإنهما قرآ " فخرج " بغير ألف، والخرج هو الذي يكون مقابلا للدخل، يقال لكل ما تخرجه إلى غيرك خرجا، والخراج غالب في الضريبة على الأرض. قال المبرد: الخرج المصدر، والخراج الاسم. قال النضر بن شميل: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الفرق بين الخرج والخراج فقال: الخراج ما لزمك، والخرج ما تبرعت به. وروى عنه أنه قال: الخرج من الرقاب.. والخراج من الأرض (وهو خير الرازقين) هذه الجملة مقررة لما قبلها من كون خراجه سبحانه خير.
ثم لما أثبت سبحانه لرسوله من الأدلة الواضحة المقتضية لقبول ما جاء به ونفى عنه أضداد ذلك قال (وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم) أي إلى طريق واضحة تشهد العقول بأنها مستقيمة غير معوجة، والصراط في اللغة الطريق، فسمى الدين طريقا لأنها تؤدي إليه. ثم وصفهم سبحانه بأنهم على خلاف ذلك فقال (وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون) يقال: نكب عن الطريق ينكب نكوبا: إذا عدل عنه ومال إلى غيره، والنكوب والنكب العدول والميل، ومنه النكباء للريح بين ريحين، سميت بذلك لعدولها عن المهاب، وعن الصراط