ثان أو مصدر ميمي مؤكد للفعل المذكور، وقد مضى الكلام على مثل هذا في سورة سبحان، وفى هذا من الامتنان عليهم والتبشير لهم ما لا يقادر قدره، فإن المدخل الذي يرضونه هو الأوفق لنفوسهم والأقرب إلى مطلبهم، على أنهم يرون في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وذلك هو الذي يرضونه وفوق الرضا (وإن الله لعليم) بدرجات العاملين ومراتب استحقاقهم (حليم) عن تفريط المفرطين منهم لا يعاجلهم بالعقوبة، والإشارة بقوله (ذلك) إلى ما تقدم. قال الزجاج: أي الأمر ما قصصنا عليكم من إنجاز الوعد للمهاجرين خاصة إذا قتلوا أو ماتوا، فهو على هذا خبر مبتدأ محذوف، ومعنى (ومن عاقب بمثل ما عوقب به) من جازى الظالم بمثل ما ظلمه، وسمى الابتداء باسم الجزاء مشاكلة كقوله تعالى - وجزاء سيئة سيئة مثلها - وقوله تعالى - فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم والعقوبة في الأصل إنما تكون بعد فعل تكون جزاء عنه، والمراد بالمثلية أنه اقتصر على المقدار الذي ظلم به ولم يزد عليه، ومعنى (ثم بغى عليه) أن الظالم له في الابتداء عاوده بالمظلمة بعد تلك المظلمة الأولى، قيل المراد بهذا البغي: هو ما وقع من المشركين من إزعاج المسلمين من أوطانهم بعد أن كذبوا نبيهم وآذوا من آمن به، واللام في (لينصرنه الله) جواب قسم محذوف: أي لينصرن الله المبغى عليه على الباغي (إن الله لعفو غفور) أي كثير العفو والغفران للمؤمنين فيما وقع منهم من الذنوب. وقيل العفو والغفران لما وقع من المؤمنين من ترجيح الانتقام على العفو، وقيل إن معنى (ثم بغى عليه) أي ثم كان المجازى مبغيا عليه: أي مظلوما، ومعنى ثم تفاوت الرتبة، لأن الابتداء بالقتال معه نوع ظلم كما قيل في أمثال العرب: البادي أظلم. وقيل إن هذه الآية مدنية، وهى في القصاص والجراحات، والإشارة بقوله (ذلك بأن الله يولج الليل في النهار) إلى ما تقدم من نصر الله سبحانه للمبغي عليه، وهو مبتدأ وخبره جملة بأن الله يولج، والباء للسببية: أي ذلك بسبب أنه سبحانه قادر، ومن كمال قدرته إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل، وعبر عن الزيادة بالإيلاج، لأن زيادة أحدهما تستلزم نقصان الآخر، والمراد تحصيل أحد العرضين في محل الآخر. وقد مضى في آل عمران معنى هذا الإيلاج (وأن الله سميع) يسمع كل مسموع (بصير) يبصر كل مبصر، أو سميع للأقوال مبصر للأفعال، فلا يعزب عنه مثقال ذرة، والإشارة بقوله (ذلك بأن الله هو الحق) إلى ما تقدم من اتصافه سبحانه بكمال القدرة الباهرة والعلم التام: أي هو سبحانه ذو الحق، فدينه حق، وعبادته حق ونصره لأوليائه على أعدائه حق، ووعده حق، فهو عز وجل في نفسه وأفعاله وصفاته حق (وأن ما تدعون من دونه هو الباطل) قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وشعبة تدعون بالفوقية على الخطاب للمشركين، واختار هذه القراءة أبو حاتم. وقرأ الباقون بالتحتية على الخبر، واختار هذه القراءة أبو عبيدة. والمعنى: إن الذين تدعونه إلها، وهى الأصنام هو الباطل الذي لا ثبوت له ولا لكونه إلها (وأن الله هو العلى) أي العالي على كل شئ بقدرته المتقدس على الأشباه والأنداد المتنزه عما يقول الظالمون من الصفات (الكبير) أي ذو الكبرياء، وهو عبارة عن كمال ذاته وتفرده بالإلهية، ثم ذكر سبحانه دليلا بينا على كمال قدرته، فقال (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة) الاستفهام للتقرير، والفاء للعطف على أنزل، وارتفع الفعل بعد الفاء لكون استفهام التقرير بمنزلة الخبر كما قاله الخليل وسيبويه. قال الخليل: المعنى أنزل من السماء ماء فكان كذا وكذا، كما قال الشاعر:
ألم تسأل الربع القواء فينطق * وهل يخبرنك اليوم بيداء سملق معناه: قد سألته فنطق. قال الفراء: ألم تر خبر كما تقول في الكلام: إن الله ينزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة: أي ذات خضرة كما تقول مبقلة ومسبعة: أي ذوات بقل وسباع، وهو عبارة عن استعجالها