معذبين حتى نبعث رسولا) لما ذكر سبحانه اختصاص المهتدي بهدايته والضال بضلاله. وعدم مؤاخذة الإنسان بجناية غيره، ذكر أنه لا يعذب عباده إلا بعد الإعذار إليهم بإرسال رسله، وإنزال كتبه، فبين سبحانه أنه لم يتركهم سدى، ولا يؤاخذهم قبل إقامة الحجة عليهم، والظاهر أنه لا يعذبهم لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا بعد الإعذار إليهم بإرسال الرسل، وبه قالت طائفة من أهل العلم. وذهب الجمهور إلى أن المنفى هنا هو عذاب الدنيا لا عذاب الآخرة (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا) اختلف المفسرون في معنى أمرنا على قولين: الأول أن المراد به الأمر الذي هو نقيض النهي، وعلى هذا اختلفوا في المأمور به، فالأكثر على أنه الطاعة والخير. وقال في الكشاف: معناه أمرناهم بالفسق ففسقوا، وأطال الكلام في تقرير هذا وتبعه المقتدون به في التفسير، وما ذكره هو ومن تابعه معارض بمثل قول القائل أمرته فعصاني، فإن كل من يعرف اللغة العربية يفهم من هذا أن المأمور به شئ غير المعصية، لأن المعصية منافية للأمر مناقضة له، فكذلك أمرته ففسق يدل على أن المأمور به شئ غير الفسق، لأن الفسق عبارة عن الإتيان بضد المأمور به، فكونه فسقا ينافي كونه مأمورا به ويناقضه. القول الثاني أن معنى (أمرنا مترفيها) أكثرنا فساقها. قال الواحدي: تقول العرب أمر القوم إذا كثروا وأمرهم الله إذا أكثرهم.
وقد قرأ أبو عثمان النهدي وأبو رجاء وأبو العالية والربيع ومجاهد والحسن أمرنا بتشديد الميم: أي جعلناهم أمراء مسلطين. وقرأ الحسن أيضا وقتادة وأبو حيوة الشامي ويعقوب وخارجة عن نافع وحماد بن سلمة عن ابن كثير وعلي وابن عباس آمرنا بالمد والتخفيف: أي أكثرنا جبابرتها وأمراءها قاله الكسائي. وقال أبو عبيدة: آمرته بالمد وأمرته لغتان بمعنى كثرته، ومنه الحديث " خير المال مهرة مأمورة " أي كثيرة النتاج والنسل. وكذا قال ابن عزيز. وقرأ الحسن أيضا ويحيى بن يعمر " أمرنا " بالقصر وكسر الميم على معنى فعلنا، ورويت هذه القراءة عن ابن عباس. قال قتادة والحسن: المعنى أكثرنا. وحكى نحوه أبو زيد وأبو عبيد وأنكره الكسائي وقال: لا يقال من الكثرة إلا آمرنا بالمد. قال في الصحاح: وقال أبو الحسن أمر ماله بالكسر: أي كثر، وأمر القوم: أي كثروا، ومنه قول لبيد:
إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا * يوما يكن للهلاك والفند وقرأ الجمهور (أمرنا) من الأمر، ومعناه ما قدمنا في القول الأول، ومعنى (مترفيها) المنعمون الذين قد أبطرتهم النعمة وسعة العيش، والمفسرون يقولون في تفسير المترفين: إنهم الجبارون المتسلطون والملوك الجائرون قالوا: وإنما خصوا بالذكر لأن من عداهم أتباع لهم، ومعنى فسقوا فيها: خرجوا عن الطاعة وتمرضوا في كفرهم لأن الفسوق الخروج إلى ما هو أفحش (فحق عليها القول) أي ثبت وتحقق عليهم العذاب بعد ظهور فسقهم (فدمرناهم تدميرا) أي تدميرا عظيما لا يوقف على كنهه لشدته وعظم موقعه، وقد قيل في تأويل أمرنا بأنه مجاز عن الأمر الحامل لهم على الفسق، وهو إدرار النعم عليهم، وقيل أيضا إن المراد بأردنا أن نهلك قرية أنه قرب إهلاك قرية، وهو عدول عن الظاهر بدون ملجئ إليه. ثم ذكر سبحانه أن هذه عادته الجارية مع القرون الخالية فقال (وكم أهلكنا من القرون) أي كثيرا ما أهلكنا منهم، فكم مفعول أهلكنا، ومن القرون بيان لكم وتمييز له: أي كم من قوم كفروا من بعد نوح كعاد وثمود، فحل بهم البوار ونزل بهم سوط العذاب، وفيه تخويف لكفار مكة.
ثم خاطب رسوله بما هو ردع للناس كافة فقال (وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا) قال الفراء: إنما يجوز إدخال الباء في المرفوع إذا كان يمدح به صاحبه أم يذم به، كقولك كفاك، وأكرم به رجلا. وطاب بطعامك طعاما، ولا يقال قام بأخيك وأنت تريد قام أخوك. وفى الآية بشارة عظيمة لأهل الطاعة وتخويف شديد لأهل المعصية،