(وادخلوا من أبواب متفرقة) لأنهم لو دخلوا من بابين مثلا كانوا قد امتثلوا النهي عن الدخول من باب واحد، ولكنه لما كان في الدخول من بابين مثلا نوع اجتماع يخشى معه أن تصيبهم العين أمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة، قيل وكانت أبواب مصر أربعة.
وقد أنكر بعض المعتزلة كأبي هاشم والبلخي أن للعين تأثيرا، وقالا: لا يمتنع أن صاحب العين إذا شاهد الشئ وأعجب به كانت المصلحة له في تكليفه أن يغير الله ذلك الشئ، حتى لا يبقى قلب ذلك المكلف معلقا به. وليس هذا بمستنكر من هذين وأتباعهما. فقد صار دفع أدلة الكتاب والسنة بمجرد الاستبعادات العقلية دأبهم وديدنهم، وأي مانع من إصابة العين بتقدير الله سبحانه لذلك؟ وقد وردت الأحاديث الصحيحة بأن العين حق، وأصيب بها جماعة في عصر النبوة، ومنهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وأعجب من إنكار هؤلاء لما وردت به نصوص هذه الشريعة ما يقع من بعضهم من الإزراء على من يعمل بالدليل المخالف لمجرد الاستبعاد العقلي والتنطع في العبارات كالزمخشري في تفسيره، فإنه في كثير من المواطن لا يقف على دفع دليل الشرع بالاستبعاد الذي يدعيه على العقل حتى يضم إلى ذلك الوقاحة في العبارة على وجه يوقع المقصرين في الأقوال الباطلة والمذاهب الزائفة. وبالجملة فقول هؤلاء مدفوع بالأدلة المتكاثرة وإجماع من يعتد به من هذه الأمة سلفا وخلفا، وبما هو مشاهد في الوجود، فكم من شخص من هذا النوع الإنساني وغيره من أنواع الحيوان هلك بهذا السبب، وقد اختلف العلماء فيمن عرف بالإصابة بالعين، فقال قوم: يمنع من الاتصال بالناس دفعا لضرره بحبس أو غيره من لزوم بيته - وقيل ينفى، وأبعد من قال إنه يقتل إلا إذا كان يتعمد ذلك وتتوقف إصابته على اختياره وقصده ولم ينزجر عن ذلك، فإنه إذا قتل كان له حكم القاتل. ثم قال يعقوب لأولاده (وما أغنى عنكم من الله من شئ) أي لا أدفع عنكم ضررا ولا أجلب إليكم نفعا بتدبيري هذا، بل ما قضاه الله عليكم فهو واقع لا محالة.
قال الزجاج وابن الأنباري: لو سبق في علم الله أن العين تهلكهم مع الاجتماع لكان تفرقهم كاجتماعهم. وقال آخرون: ما كان يغنى عنهم يعقوب شيئا قط حيث أصابهم ما أصابهم مع تفرقهم من إضافة السرقة إليهم، ثم صرح يعقوب بأنه لا حكم إلا لله سبحانه فقال (إن الحكم إلا لله) لا لغيره ولا يشاركه فيه مشارك في ذلك (عليه توكلت) في كل إيراد وإصدار لا على غيره: أي اعتمدت ووثقت (وعليه) لا على غيره (فليتوكل المتوكلون) على العموم، ويدخل فيه أولاده دخولا أوليا (ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم) أي من الأبواب المتفرقة ولم يجتمعوا داخلين من باب واحد. وجواب لما (ما كان يغنى عنهم) ذلك الدخول (من الله) أي من جهته (من شئ) من الأشياء مما قدره الله عليهم لأن الحذر لا يدفع القدر. والاستثناء بقوله (إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها) منقطع، والمعنى: ولكن حاجة كانت في نفس يعقوب. وهى شفقته عليهم ومحبته لسلامتهم قضاها يعقوب: أي أظهرها لهم ووصاهم بها غير معتقد أن للتدبير الذي دبره لهم تأثيرا في دفع ما قضاه الله عليهم - وقيل إنه خطر ببال يعقوب أن الملك إذا رآهم مجتمعين مع ما يظهر فيهم من كمال الخلقة، وسيما الشجاعة أوقع بهم حسدا وحقدا أو خوفا منهم. فأمرهم بالتفرق لهذه العلة. وقد اختار هذا النحاس وقال: لا معنى للعين ها هنا، وفيه أن هذا لو كان هو السبب لأمرهم بالتفرق ولم يخص النهي عن ذلك بالاجتماع عند الدخول من باب واحد، لأن هذا الحسد أو الخوف يحصل باجتماعهم داخل المدينة كما يحصل باجتماعهم عند الدخول من باب واحد. وقيل إن فاعل في قضاها ضمير يعود إلى الدخول لا إلى يعقوب. والمعنى: ما كان الدخول يغني عنهم من جهة الله شيئا، و لكنه قضى ذلك الدخول حاجة في نفس يعقوب لوقوعه حسب إرادته (وإنه لذو علم لما علمناه) أي وإن