المذكورين (لا يعلمهم إلا الله) أي لا يحصى عددهم ويحيط بهم علما إلا الله سبحانه، والموصول مبتدأ وخبره لا يعلمهم إلا الله والجملة معترضة، أو يكون الموصول معطوفا على ما قبله ولا يعلمهم إلا الله اعتراض، وعدم العلم من غير الله إما أن يكون راجعا إلى صفاتهم وأحوالهم وأخلاقهم ومدد أعمارهم: أي هذه الأمور لا يعلمها إلا الله ولا يعلمها غيره، أو يكون راجعا إلى ذواتهم: أي أنه لا يعلم ذوات أولئك الذين من بعدهم إلا الله سبحانه وجملة (جاءتهم رسلهم بالبينات) مستأنفة لبيان النبأ المذكور في (ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم) أي جاءتهم الرسل بالمعجزات الظاهرة وبالشرائع الواضحة (فردوا أيديهم في أفواههم) أي جعلوا أيدي أنفسهم في أفواههم ليعضوها غيظا مما جاءت به الرسل كما في قوله تعالى - عضوا عليكم الأنامل من الغيظ - لأن الرسل جاءتهم بتسفيه أحلامهم وشتم أصنامهم، وقيل إن المعنى: أنهم أشاروا بأصابعهم إلى أفواههم لما جاءتهم الرسل بالبينات: أي اسكتوا واتركوا هذا الذي جئتم به تكذيبا لهم ورد لقولهم، وقيل المعنى أنهم أشاروا إلى أنفسهم وما يصدر عنها من المقالة، وهى قولهم (إنا كفرنا بما أرسلتم به) أي لا جواب لكم سوى هذا الذي قلناه لكم بألسنتنا هذه، وقيل وضعوا أيديهم على أفواههم استهزاء وتعجبا كما يفعله من غلبه الضحك من وضع يده على فيه، وقيل المعنى: ردوا على الرسل قولهم وكذبوهم بأفواههم، فالضمير الأول للرسل والثاني للكفار، وقيل جعلوا أيديهم في أفواه الرسل ردا لقولهم، فالضمير الأول على هذا للكفار والثاني للرسل، وقيل معناه: أومئوا إلى الرسل أن اسكتوا، وقيل أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواه الرسل ليسكتوهم ويقطعوا كلامهم، وقيل إن الأيدي هنا النعم: أي ردوا نعم الرسل بأفواههم: أي بالنطق والتكذيب، والمراد بالنعم هنا ما جاءهم به من الشرائع. وقال أبو عبيدة: ونعم ما قال: هو ضرب مثل: أي لم يؤمنوا ولم يجيبوا، والعرب تقول للرجل إذا أمسك عن الجواب وسكت: قد رد يده في فيه. وهكذا قال الأخفش، واعترض ذلك القتيبي فقال: لم يسمع أحد من العرب يقول رد يده في فيه: إذا ترك ما أمر به. وإنما المعنى عضوا على الأيدي حنقا وغيظا، كقول الشاعر:
يردن في فيه غيظ الحسود * حتى يعض على الأكفا وهذا هو القول الذي قدمناه على جميع هذه الأقوال، ومنه قول الشاعر:
لو أن سلمى أبصرت تجددي بعد * عضت من الوجد بأطراف اليد وهو أقرب التفاسير للآية إن لم يصح عن العرب ما ذكره أبو عبيدة والأخفش، فإن صح ما ذكراه فتفسير الآية به أقرب (وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به) أي قال الكفار للرسل إنا كفرنا بما أرسلتم به من البينات على زعمكم (وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه) أي في شك عظيم مما تدعوننا إليه من الإيمان بالله وحده وترك ما سواه (مريب) أي موجب للريب. يقال أربته: إذا فعلت أمرا أوجب ريبة وشكا، والريب قلق النفس وعدم سكونها. وقد قيل كيف صرحوا بالكفر ثم أمرهم على الشك. وأجيب بأنهم أرادوا إنا كافرون برسالتكم وإن نزلنا عن هذا المقام فلا أقل من أنا نشك في صحة نبوتكم. ومع كمال الشك لا مطمع في الاعتراف بنبوتكم، وجملة (قالت رسلهم أفي الله شك) مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل فماذا قالت لهم الرسل؟ والاستفهام للتقريع والتوبيخ: أي أفي وحدانيته سبحانه شك. وهى في غاية الوضوح والجلاء، ثم إن الرسل ذكروا بعد إنكارهم على الكفار ما يؤكد ذلك الإنكار من الشواهد الدالة على عدم الشك في وجوده سبحانه ووحدانيته. فقالوا (فاطر السماوات والأرض) أي خالقهما ومخترعهما ومبدعهما وموجدهما بعد العدم (يدعوكم) إلى الإيمان به وتوحيده (ليغفر لكم من ذنوبكم) قال 13 - فتح القدير - 3