يؤمنوا بما جاءوا به بالعقوبة (حتى إذا استيأس الرسل) من النصر بعقوبة قومهم، أو حتى إذ استيأس الرسل من إيمان قومهم لانهماكهم في الكفر (وظنوا أنهم قد كذبوا). قرأ ابن عباس وابن مسعود وأبو عبد الرحمن السلمي وأبو جعفر بن القعقاع والحسن وقتادة وأبو رجاء العطاردي وعاصم وحمزة والكسائي ويحيى بن وثاب والأعمش وخلف " كذبوا " بالتخفيف: أي ظن القوم أن الرسل قد كذبوهم فيما أخبروا به من العذاب ولم يصدقوا - وقيل المعنى: ظن القوم أن الرسل قد كذبوا فيما ادعوا من نصرهم، وقيل المعنى: وظن الرسل أنها قد كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم بأنهم ينصرون عليهم، أو كذبهم رجاؤهم للنصر. وقرأ الباقون " كذبوا " بالتشديد، والمعنى عليها واضح: أي ظن الرسل بأن قومهم قد كذبوهم فيما وعدوهم به من العذاب، ويجوز في هذا أن يكون فاعل ظن القوم المرسل إليهم على معنى أنهم ظنوا أن الرسل قد كذبوا فيما جاءوا به من الوعد والوعيد. وقرأ مجاهد وحميد " قد كذبوا " بفتح الكاف والذال مخففتين على معنى: وظن قوم الرسل أن الرسل قد كذبوا، وقد قيل إن الظن في هذه الآية بمعنى اليقين، لأن الرسل قد تيقنوا أن قومهم كذبوهم، وليس ذلك مجرد ظن منهم. والذي ينبغي أن يفسر الظن باليقين في مثل هذه الصورة ويفسر بمعناه الأصلي فيما يحصل فيه مجرد ظن فقط من الصور السابقة (جاءهم نصرنا، أي فجاء الرسل نصر الله سبحانه فجأة. أو جاء قوم الرسل الذين كذبوهم نصر الله لرسله بإيقاع العذاب على المكذبين (فننجي من نشاء) قرأ عاصم " فنجى " بنون واحدة. وقرأ الباقون " فننجى " بنونين. واختار أبو عبيدة القراءة الأولى، لأنها في مصحف عثمان كذلك. وقرأ ابن محيصن " فنجا " على البناء للفاعل، فتكون من على القراءة الأولى في محل رفع على أنها نائب الفاعل، وتكون على القراءة الثانية في محل نصب على أنها مفعول، وعلى القراءة الثالثة في محل رفع على أنها فاعل، والذين نجاهم الله هم الرسل ومن آمن معهم. وهلك المكذبون (ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين) عند نزوله بهم. وفيه بيان من يشاء الله نجاته من العذاب وهم من عدا هؤلاء المجرمين (لقد كان في قصصهم) أي قصص الرسل ومن بعثوا إليه من الأمم، أو في قصص يوسف وإخوته وأبيه (عبرة لأولي الألباب ) والعبرة: الفكرة والبصيرة المخلصة من الجهل والحيرة. وقيل هي نوع من الاعتبار، وهى العبور من الطرف المعلوم إلى الطرف المجهول، وأولوا الألباب هم ذوو العقول السليمة الذين يعتبرون بعقولهم فيدرون ذلك ما فيه مصالح دينهم، وإنما كان هذا القصص عبرة لما اشتمل عليه من الإخبارات المطابقة للواقع مع بعد المدة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين الرسل الذين قص حديثهم. ومنهم يوسف وإخوته وأبوه مع كونه لم يطلع على أخبارهم ولا اتصل بأحبارهم (ما كان حديثا يفترى) أي ما كان هذا المقصوص الذي يدل عليه ذكر القصص وهو القرآن المشتمل على ذلك حديثا يفترى (ولكن تصديق الذي بين يديه) أي ما قبله من الكتب المنزلة كالتوراة والإنجيل والزبور. وقرئ برفع " تصديق " على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هو تصديق وتفصيل كل شئ من الشرائع المجملة المحتاجة إلى تفصيلها، لأن الله سبحانه لم يفرط في الكتاب من شئ، وقيل تفصيل كل شئ من قصة يوسف مع إخوته وأبيه. قيل وليس المراد به ما يقتضيه من العموم، بل المراد به الأصول والقوانين وما يؤول إليها (وهدى) في الدنيا يهتدى به كل من أراد الله هدايته (ورحمة) في الآخرة يرحم الله بها عباده العاملين بما فيه شرط الإيمان الصحيح. ولهذا قال (لقوم يؤمنون) أي يصدقون به وبما تضمنه من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وشرائعه وقدره. وأما من عداهم فلا ينتفع به ولا يهتدى بما اشتمل عليه من الهدى، فلا يستحق ما يستحقونه.
(٦١)