الأولى " ثم أشار سبحانه إلى قصة عيسى إجمالا فقال (وجعلنا ابن مريم وأمه آية) أي علامة تدل على عظيم قدرتنا، وبديع صنعنا، وقد تقدم الكلام على هذا في آخر سورة الأنبياء في تفسير قوله سبحانه " وجعلناها وابنها آية للعالمين " ومعنى قوله (وآويناهما إلى ربوة) إلى مكان مرتفع: أي جعلناهما يأويان إليها. قيل هي أرض دمشق، وبه قال عبد الله بن سلام وسعيد بن المسيب ومقاتل، وقيل بيت المقدس، قاله قتادة وكعب، وقيل أرض فلسطين، قال السدى (ذات قرار) أي ذات مستقر يستقر عليه ساكنوه (ومعين) أي وماء معين. قال الزجاج:
هو الماء الجاري في العيون، فالميم على هذا زائدة كزيادتها في منبع، وقيل هو فعيل بمعنى مفعول. قال علي بن سليمان الأخفش معن الماء: إذا جرى فهو معين وممعون: وكذا قال ابن الأعرابي. وقيل هو مأخوذ من الماعون، وهو النفع، وبمثل ما قال الزجاج قال الفراء (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات) قال الزجاج: هذه مخاطبة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودل الجمع على أن الرسل كلهم كذا أمروا. وقيل إن هذه المقالة خوطب بها كل نبي، لأن هذه طريقتهم التي ينبغي لهم الكون عليها، فيكون المعنى: وقلنا يا أيها الرسل خطابا لكل واحد على انفراده لاختلاف أزمنتهم. وقال ابن جرير: إن الخطاب لعيسى. وقال الفراء: هو كما تقول للرجل الواحد كفوا عنا، والطيبات: ما يستطاب ويستلذ، وقيل هي الحلال، وقيل هي ما جمع الوصفين المذكورين. ثم بعد أن أمرهم بالأكل من الطيبات أمرهم بالعمل الصالح فقال (واعملوا صالحا) أي عملا صالحا وهو ما كان موافقا للشرع، ثم علل هذا الأمر بقوله (إني بما تعملون عليم) لا يخفى علي شئ منه، وإني مجازيكم على حسب أعمالكم إن خيرا فخير، وان شرا فشر (وإن هذه أمتكم أمة واحدة) هذا من جملة ما خوطب به الأنبياء، والمعنى: أن هذه ملتكم وشريعتكم أيها الرسل ملة واحدة، وشريعة متحدة يجمعها أصل هو أعظم ما بعث الله به أنبياءه وأنزل فيه كتبه، وهو دعاء جميع الأنبياء إلى عبادة الله وحده لا شريك له. وقيل المعنى: إن هذا الذي تقدم ذكره هو دينكم وملتكم فالزموه على أن المراد بالأمة هنا الدين كما في قوله " إنا وجدنا آباءنا على أمة "، ومنه قول النابغة:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة * وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع قرئ بكسر " إن " على الاستئناف المقرر لما تقدمه، وقرئ بفتحها وتشديدها. قال الخليل: هي في موضع نصب لما زال الخافض: أي أنا عالم بأن هذا دينكم الذي أمرتكم أن تؤمنوا به. وقال الفراء: إن متعلقة بفعل مضمر، وتقديره: واعلموا أن هذه أمتكم. وقال سيبويه: هي متعلقة باتقون، والتقدير: فاتقون لأن أمتكم أمة واحدة، والفاء في (فاتقون) لترتيب الأمر بالتقوى على ما قبله من كونه ربكم المختص بالربوبية: أي لا تفعلوا ما يوجب العقوبة عليكم مني بأن تشركوا بي غيري، أو تخالفوا ما أمرتكم به أو نهيتكم عنه. ثم ذكر سبحانه ما وقع من الأمم من مخالفتهم لما أمرهم به الرسل فقال (فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا) والفاء لترتيب عصيانهم على ما سبق من الأمر بالتقوى، والضمير يرجع إلى ما يدل عليه لفظ الأمة، والمعنى: أنهم جعلوا دينهم مع اتحاده قطعا متفرقة مختلفة. قال المبرد: زبرا فرقا وقطعا مختلفة، واحدها زبور، وهى الفرقة والطائفة، ومثله الزبرة وجمعها زبر، فوصف سبحانه الأمم بأنهم اختلفوا، فاتبعت فرقة التوراة، وفرقة الزبور، وفرقة الإنجيل ثم حرفوا وبدلوا، وفرقة مشركة تبعوا ما رسمه لهم آباؤهم من الضلال: قرئ " زبرا " بضم الباء جمع زبور، وقرئ بفتحها: أي قطعا كقطع الحديد (كل حزب بما لديهم فرحون) أي كل فريق من هؤلاء المختلفين بما لديهم: أي بما عندهم من الدين فرحون: أي معجبون به (فذرهم في غمرتهم حتى حين) أي اتركهم في جهلهم، فليسوا بأهل للهداية، ولا يضق صدرك بتأخير العذاب عنهم، فلكل شئ وقت، شبه سبحانه ما هم فيه من الجهل بالماء الذي يغمر من