له لن يخلقوه ولو اجتمعوا له، والجواب محذوف والتقدير لن يخلقوه وهما في محل نصب على الحال: أي لن يخلقوه على كل حال. ثم بين سبحانه كمال عجزهم وضعف قدرتهم فقال (وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه) أي إذا أخذ منهم الذباب شيئا من الأشياء لا يقدرون على تخليصه منه لكمال عجزهم وفرط ضعفهم، والاستنقاذ والإنقاذ التخلص، وإذا عجزوا عن خلق هذا الحيوان الضعيف، وعن استنقاذ ما أخذه عليهم فهم عن غيره مما هو أكبر منه جرما وأشد منه قوة أعجز وأضعف، ثم عجب سبحانه من ضعف الأصنام والذباب، فقال (ضعف الطالب والمطلوب) فالصنم كطالب من حيث إنه يطلب خلق الذباب أو يطلب استنقاذ ما سلبه منه، والمطلوب الذباب. وقيل الطالب عابد الصنم، والمطلوب الصنم. وقيل الطالب الذباب والمطلوب الآلهة. ثم بين سبحانه أن المشركين الذين عبدوا من دون الله آلهة عاجزة إلى هذه الغاية في العجز ما عرفوا الله حق معرفته فقال (ما قدروا الله حق قدره) أي ما عظموه حق تعظيمه ولا عرفوه حق معرفته، حيث جعلوا هذه الأصنام شركاء له مع كون حالها هذا الحال، وقد تقدم في الأنعام (إن الله لقوى) على خلق كل شئ (عزيز) غالب لا يغالبه أحد، بخلاف آلهة المشركين، فإنها جماد لا تعقل ولا تنفع ولا تضر ولا تقدر على شئ. ثم أراد سبحانه أن يرد عليهم ما يعتقدونه في النبوات والإلهيات فقال: (الله يصطفى من الملائكة رسلا) كجبريل وإسرافيل وميكائيل وعزرائيل (و) يصطفى أيضا رسلا (من الناس) وهم الأنبياء، فيرسل الملك إلى النبي، والنبي إلى الناس، أو يرسل الملك لقبض أرواح مخلوقاته، أو لتحصيل ما ينفعكم، أو لإنزال العذاب عليهم (إن الله سميع) لأقوال عباده (بصير) بمن يختاره من خلقه (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم) أي ما قدموا من الأعمال وما يتركونه من الخير والشر كقوله تعالى - ونكتب ما قدموا وآثارهم - (وإلى الله ترجع الأمور) لا إلى غيره، ولما تضمن ما ذكره من أن الأمور ترجع إليه الزجر لعباده عن معاصيه، والحض لهم على طاعاته صرح بالمقصود فقال (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا) أي صلوا الصلاة التي شرعها الله لكم، وخص الصلاة لكونها أشرف العبادات. ثم عمم فقال (واعبدوا ربكم) أي افعلوا جميع أنواع العبادة التي أمركم الله بها (وافعلوا الخير) أي ما هو خير، وهو أعم من الطاعة الواجبة والمندوبة، وقيل المراد بالخير هنا المندوبات. ثم علل ذلك بقوله (لعلكم تفلحون) أي إذا فعلتم هذه كلها رجوتم الفلاح. وهذه الآية من مواطن سجود التلاوة عند الشافعي ومن وافقه، لا عند أبي حنيفة ومن قال بقوله، وقد تقدم أن هذه السورة فضلت بسجدتين، وهذا دليل على ثبوت السجود عند تلاوة هذه الآية. ثم أمرهم بما هو سنام الدين وأعظم أعماله، فقال (وجاهدوا في الله) أي في ذاته ومن أجله، والمراد به الجهاد الأكبر، وهو الغزو للكفار ومدافعتهم إذا غزوا بلاد المسلمين. وقيل المراد بالجهاد هنا امتثال ما أمرهم الله به في الآية المتقدمة، أو امتثال جميع ما أمر به ونهى عنه على العموم، ومعنى (حق جهاده) المبالغة في الأمر بهذا الجهاد، لأنه أضاف الحق إلى الجهاد، والأصل إضافة الجهاد إلى الحق: أي جهادا خالصا لله، فعكس ذلك لقصد المبالغة، وأضاف الجهاد إلى الضمير اتساعا، أو لاختصاصه به سبحانه من حيث كونه مفعولا له ومن أجله. وقيل المراد بحق جهاده هو أن لا تخافوا في الله لومة لائم، وقيل المراد به استفراغ ما في وسعهم في إحياء دين الله. وقال مقاتل والكلبي:
إن الآية منسوخة بقوله تعالى - فاتقوا الله ما استطعتم - كما أن قوله - اتقوا الله حق تقاته - منسوخ بذلك، ورد ذلك بأن التكليف مشروط بالقدرة، فلا حاجة إلى المصير إلى النسخ. ثم عظم سبحانه شأن المكلفين بقوله (هو اجتباكم) أي اختاركم لدينه، وفيه تشريف لهم عظيم. ثم لما كان في التكليف مشقة على النفس في بعض الحالات قال (وما جعل عليكم في الدين من حرج) أي من ضيق وشدة.