قوله (وكذلك أنزلناه) معطوف على قوله " كذلك نقص عليك ": أي مثل ذلك الإنزال أنزلناه: أي القرآن حال كونه (قرآنا عربيا) أي بلغة العرب ليفهموه (وصرفنا فيه من الوعيد) بينا فيه ضروبا من الوعيد تخويفا وتهديدا أو كررنا فيه بعضا منه (لعلهم يتقون) أي كي يخافوا الله فيتجنبوا معاصيه ويحذروا عقابه (أو يحدث لهم ذكرا) أي اعتبارا واتعاظا، وقيل ورعا، وقيل شرفا، وقيل طاعة وعبادة، لأن الذكر يطلق عليها. وقرأ الحسن " أو نحدث " بالنون (فتعالى الله الملك الحق) لما بين للعباد عظيم نعمته عليهم بإنزال القرآن نزه نفسه عن مماثلة مخلوقاته في شئ من الأشياء: أي جل الله عن إلحاد الملحدين وعما يقول المشركون في صفاته فإنه الملك الذي بيده الثواب والعقاب وأنه الحق أي ذو الحق (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه) أي يتم إليك وحيه. قال المفسرون: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبادر جبريل فيقرأ قبل أن يفرغ جبريل من الوحي حرصا منه على ما كان ينزل عليه منه فنهاه الله عن ذلك، ومثله قوله - لا تحرك به لسانك لتعجل به - على ما يأتي إن شاء الله، وقيل المعنى: ولا تلقه إلى الناس قبل أن يأتيك بيان تأويله، وقرأ ابن مسعود ويعقوب والحسن والأعمش " من قبل أن نقضي " بالنون ونصب وحيه (وقل رب زدني علما) أي سل ربك زيادة العلم بكتابه (ولقد عهدنا إلى آدم) اللام هي الموطئة للقسم، والجملة مستأنفة مقررة لما قبلها من تصريف الوعيد: أي لقد أمرناه ووصيناه، والمعهود محذوف، وهو ما سيأتي من نهيه عن الأكل من الشجرة، ومعنى (من قبل) أي من قبل هذا الزمان (فنسى) قرأ الأعمش بإسكان الياء، والمراد بالنسيان هنا ترك العمل بما وقع به العهد إليه فيه، وبه قال أكثر المفسرين، وقيل النسيان على حقيقته، وإنه نسي ما عهد الله به إليه وينتهي عنه، وكان آدم مأخوذا بالنسيان في ذلك الوقت، وإن كان النسيان مرفوعا عن هذه الأمة، والمراد من الآية تسلية النبي صلى الله عليه وآله وسلم على القول الأول. أي أن طاعة بني آدم للشيطان أمر قديم، وأن هؤلاء المعاصرين له إن نقضوا العهد فقد نقض أبوهم آدم، كذا قال ابن جرير والقشيري، واعترضه ابن عطية قائلا بأن كون آدم مماثلا للكفار الجاحدين بالله ليس بشئ، وقرئ " فنسى " بضم النون وتشديد السين مكسورة مبنيا للمفعول: أي فنساه إبليس (ولم نجد له عزما) العزم في اللغة توطين النفس على الفعل والتصميم عليه، والمضي على المعتقد في أي شئ كان، وقد كان آدم عليه السلام قد وطن نفسه على أن لا يأكل من الشجرة وصمم على ذلك، فلما وسوس إليه إبليس لانت عريكته وفتر عزمه وأدركه ضعف البشر، وقيل العزم الصبر أي لم نجد له صبرا عن أكل الشجرة. قال النحاس: وهو كذلك في اللغة، يقال لفلان عزم: أي صبر وثبات على التحفظ عن المعاصي حتى يسلم منها، ومنه - كما صبر أولوا العزم من الرسل -، وقيل المعنى: ولم نجد له عزما على الذنب، وبه قال ابن كيسان، وقيل ولم نجد له رأيا معزوما عليه، وبه قال ابن قتيبة. ثم شرع سبحانه في كيفية ظهور نسيانه وفقدان عزمه، والعامل في إذ مقدر: أي (و) أذكر (إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) وتعليق الذكر بالوقت مع أن المقصود ذكر ما فيه من الحوادث للمبالغة، لأنه إذا وقع الأمر بذكر الوقت كان ذكر ما فيه من الحوادث لازما بطريق الأولى وقد تقدم تفسير هذه القصة في البقرة مستوفى، ومعنى (فتشقى) فتتعب في تحصيل ما لا بد منه في المعاش كالحرث والزرع، ولم يقل فتشقيا، لأن الكلام من أول القصة مع آدم وحده، ثم علل ما يوجبه ذلك النهي بما فيه الراحة الكاملة عن التعب والاهتمام فقال (إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى) أي في الجنة. والمعنى: أن لك فيها تمتعا بأنواع المعايش وتنعما بأصناف النعم من المآكل الشهية والملابس البهية، فإنه لما نفى عنه الجوع والعرى أفاد ثبوت الشبع والاكتساء له، وهكذا قوله (وإنك لا تظمأ فيها ولا تضحى) فإن نفى الظمأ يستلزم حصول الري ووجود المسكن الذي يدفع عنه مشقة الضحو
(٣٨٩)