رأته في صورة إنسان حسن كامل الخلق قد خرق عليها الحجاب ظنت أنه يريدها بسوء، فاستعاذت بالله منه، و (قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا) أي ممن يتقي الله ويخافه، وقيل إن تقيا اسم رجل صالح، فتعوذت منه تعجبا، وقيل إنه اسم رجل فاجر معروف في ذلك الوقت، والأول أولى. وجواب الشرط محذوف:
أي فلا تتعرض لي (قال إنما أنا رسول ربك) أي قال لها جبريل: إنما أنا رسول ربك الذي استعذت به، ولست ممن يتوقع منه ما خطر ببالك من إرادة السوء (لأهب لك غلاما زكيا) جعل الهبة من قبله لكونه سببا فيها من جهة كون الإعلام لها من جهته، أو من جهة كون النفخ قام به في الظاهر. وقرأ أبو عمرو ويعقوب وورش عن نافع " ليهب " على معنى أرسلني ليهب لك، وقرأ الباقون بالهمز. والزكي الطاهر من الذنوب الذي ينمو على النزاهة والعفة، وقيل المراد بالزكي النبي (قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر) أي لم يقربني زوج ولا غيره (ولم أك بغيا) البغي هي الزانية التي تبغي الرجال. قال المبرد: أصله بغوي على فعول قلبت الواو ياء ثم أدغمت في الياء وكسرت الغين للمناسبة. وقال ابن جنى: إنه فعيل: وزيادة ذكر كونها لم تك بغيا مع كون قولها لم يمسسني بشر يتناول الحلال والحرام لقصد التأكيد تنزيها لجانبها من الفحشاء، وقيل ما استبعدت من قدرة الله شيئا، ولكن أرادت كيف يكون هذا الولد هل من قبل زوج تتزوجه في المستقبل أم يخلقه الله سبحانه ابتداء؟ وقيل إن المس عبارة عن النكاح الحلال، وعلى هذا لا يحتاج إلى بيان وجه قولها: ولم أك بغيا، وما ذكرناه من شموله أولى باستعمالات أهل اللغة وما يوجد في محاوراتهم مما يطول تعداده ا ه (ولنجعله آية للناس) أي ولنجعل هذا الغلام أو خلقه من غير أب أية للناس يستدلون بها على كمال القدرة، وهو علة لمعلل محذوف، والتقدير خلقناه لنجعله، أو معطوف على علة أخرى مضمرة تتعلق بما يدل عليه قوله سبحانه (وهو على هين) وجملة (قال كذلك قال ربك هو على هين) مستأنفة، والقائل هو الملك، والكلام فيها كالكلام فيما تقدم من قول زكرياء. وقوله (ورحمة منا) معطوف على آية: أي ولنجعله رحمة عظيمة كائنة منا للناس لما ينالونه منه من الهداية والخير الكثير، لأن كل نبي رحمة لأمته (وكان أمرا مقضيا) أي وكان ذلك المذكور أمرا مقدرا قد قدره الله سبحانه وجف به القلم (فحملته) ها هنا كلام مطوى، والتقدير: فاطمأنت إلى قوله فدنا منها فنفخ في جيب درعها فوصلت النفخة إلى بطنها فحملته، وقيل كانت النفخة في ذيلها، وقيل في فمها. قيل إن وضعها كان متصلا بهذا الحمل من غير مضي مدة للحمل، ويدل على ذلك قوله (فانتبذت به مكانا قصيا) أي تنحت واعتزلت إلى مكان بعيد والقصي هو البعيد. قيل كان هذا المكان وراء الجبل، وقيل أبعد مكان في تلك الدار، وقيل أقصى الوادي، وقيل إنها حملت به ستة أشهر، وقيل ثمانية أشهر، وقيل سبعة (فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة) أي ألجأها واضطرها، ومنه قول زهير * أجاءته المخافة والرجاء * وقرأ شبل " فاجأها " من المفاجأة، ورويت هذه القراءة عن عاصم، وقرأ الحسن بغير همز، وفي مصحف أبى " فلما أجاءها " قال في الكشاف: إن أجاءها منقول من جاء، إلا أن استعماله قد تعين بعد النقل إلى معنى الإلجاء، وفيه بعد، والظاهر أن كل واحد من الفعلين موضوع بوضع مستقل، والمخاض مصدر مخضت المرأة تمخض مخضا ومخاضا إذا دنا ولادها. وقرأ الجمهور بفتح الميم، وقرأ ابن كثير بكسرها. والجذع ساق النخلة اليابسة، كأنها طلبت شيئا تستند إليه وتتعلق به كما تتعلق الحامل لشدة وجع الطلق بشئ مما تجده عندها، والتعريف إما للجنس أو للعهد (قالت يا ليتني مت قبل هذا) أي قبل هذا الوقت، تمنت الموت لأنها خافت أن يظن بها السوء في دينها، أو لئلا يقع قوم بسببها في البهتان (وكنت نسيا)